حسين مرهون

تمارس لجنة التحقيق البرلمانية عملها بمنتهى المهنية. لا أخبار ولا تسريبات. برافو. صار متاحاً الآن لأعضائها أن يبصبصوا على ''السخافات'' كلها حيّةً، وعلى الأجساد غضة وطرية. الصور لا تكفي. الصور أصنام. تعطي نقطة الضوء، لكنها لا تنير. الضوء يدل، أما الإنارة فتكشف. وأخيراً، وجد السادة النواب ما يكشفون عنه. ما يفضّون به ختْم المكبوتات المكنونة. عُقَد الذنب المترسبة من فرط الإلجام الناسوتي. لجنة تحقيق فائقة السرية. مثل الجنس سرّي ومُصادَر!. أحدهم صرّح - ويُشكُّ في ذلك - أن التحقيق سيشمل النصوص أيضاً. يشمل ما يشمل. وفي الأصل، فإن الأرثوذكسيات التي لا تجنح إلى التشميل، أو تتعاطى الحقائق بالتجزئة، تضمر. سمة الأرثوذكسيات أنها مطلقة وشمولية. من هنا تستقي حيوانيتها. وأيضاً حيويتها. ومن هنا تربح معاركها في الهيمنة على المجال العام. وإرغاماً لا بالتخيير.

الأصوات الجعيرة لم تعد تأتي من اللجنة. اللجنة ساكتة. إنها هناك، تتلصص بتؤدة على الأشرطة في الغرف المغلقة. غيرها يقوم بالدور. خطباء جوامع أو طلبة أغرار. وفيما تنكبُّ اللجنة على تدوير زر التقديم والتأخير، ينكبُّ هؤلاء على تدوير الجعير. ينتهي بيان تظاهرة سيّرها نحو مائة وعشرون طالباً وطالبة في جامعة البحرين، الأسبوع الماضي، بالعبارة التالية: ''طلبة وطالبات جامعة البحرين''. من خوّلهم الحديث باسم ''التاءات'' الوثنية هذه، والمغرغرة ثقةً، كذباً وطمأنينة؟. هذا السؤال غبي. ألم نقل قبل قليل فقط، إن المسألة مسألة جعير!.

وفي الجعير، لا تقتصر البلوى على جريرة اختزال المجموع الطلابي في رؤية أحادية وثنية، إنما أيضاً على التوجه المتنامي باتجاه استتباع المجال الجامعي إلى المجال العام. وللحق، يقال هنا، إن ذلك ليس بالأمر المُبتدَع. فليست مستحدثة عملية إسالة الحدود بين المجالين. ومنذ منتصف التسعينات، وما رشح إذّاك من بروز رؤية ضيقة سوّغت إلى فتح المجال الجامعي أمام عنف الدولة وإكراهاتها، أُبيح إلحاقُ الجامعة بمسرح العمليات الواقع خارجها. ويومها لم ينبس أحدٌ ببنت شفة. يعني ذلك أن الكل مشترك في الجعير، إنما الملاك في أن جهةً أكثر جعيراً من جهة. عاش الجعير.

الوقت- 9 ابريل 2007

****

إرهاب الشعر

أسعد الجبوري
(العراق/ الدنمارك)

لن ينفك العقل السلفي في عالمنا العربي عن محاولات إغراق خلايا الأمة بالظلام ومشتقاته من تصحر وتفتيت للأرواح المتوثبة الحرة. هذا العقل الذي يحاول استعادة قوانين الوأد الماضوية ،لتطبيقها على الثقافة والفنون ،سيجعل العرب مجموعة مدافن متجاورة لقبر كل ما يخرج على سيطرتهم .انهم محاكم تفتيش العصر ضد حركات الإبداع والأجنحة.أنهم ترياق الرمل ضد الماء والحب .إنهم مرآة الموت المكسورة التي لا تعكس إلا جهنم وأشباح التاريخ الأسود. هؤلاء لا يرون الله إلا شيخ مطاوعة.ولا يجدون في الإسلام إلا بحيرة تماسيح تتصارع تحت المياه الحمراء!!
ما يحدث في البحرين ضد ((قيس وليلى)) يعرض الشعر لإرهاب نموذجي خطير، يحاول تحطيم مصابيح البحرين الثقافية التي استطاعت بجهود كتابها وشعراءها ومبدعيها تثبيت تلك المصابيح كعناوين أدبية وفنية مميزة ضمن حركة الثقافة العربية المميزة .
لقد ناضل صديقنا الشاعر قاسم حداد ضد الحجر طويلاً. وها هم يناضلون ضده بقنابل الإرهاب لقمع صوت الحب. هؤلاء لا يريدون قيس على مسرح.لأنه يعيش تحت ثيابهم بالسر. ولا يريدون رؤية ليلى تتنفس بموجها أمام الضوء والبشر، لأنها معتقلة في زنازينهم الجنسية الخاصة بالمثنى الثلاث الرباع وما ملكت بنوكم من منازل وسيقان وعطور وتخوت تدور بالرمونتكنترول حسب طاقة المراهقة الأصولية التي نص عليها الروض العاطر وتراث الشبق العربي الذي يملأ عقولنا ومكتباتنا وغرفنا الحمراء التي يمتد وقع تأوهاتها على مدار ساعات الأسبوع النغمي التناغمي الذي يشرح صدور أهل العالم السلفي بريق القبل وخلافه .
خذوا مقاعدكم أيها السادة بعيداً عن المسرح. ليلى التي في الاستعراض لن تدخل خيمة أحكم كما تتمنون. الحب هنا غير حب ليلة الخميس. والشعر هنا لغة ارتفاع لا لغة سقوط بين الفخذين.
اتركوا الشعر ينبض بطاقة الأحلام أيها السادة.
خذوا صراخكم بعيداً.
فالعالم مع الحب المكنون في قيس وليلى. مع موسيقى مارسيل خليفة وينابيع قاسم حداد.
وهؤلاء الذين يملكون الحب.. لن يكون وحدهم في العالم.
وكل يد تحاول وأد العاشقين، يدُ أمية لا تعرف الكتابة إلا بحبر الظلام.

****

قتل الإبداع.. القاسم المشترك الوحيد بين العرب

سعد هجرس

هذا الذي يحدث في عالمنا العربي يندرج تحت عنوان »اللامعقول« فكل العالم مشغول بالمستقبل والثورة العلمية والتكنولوجية والمعلوماتية، ونحن متشبثون بالماضي وبمعارك سخيفة وبالية ألقت بها البشرية في سلة مهملات التاريخ منذ سنوات وعقود!
فهانحن نترك كل التحديات والأخطار المروعة المحدقة بنا ونتفرغ للجدل العقيم حول حرية الإبداع وحدود المبدع التي لا يجب أن يتخطاها عندما يؤلف قصيدة شعر أو يكتب رواية أو مسرحية أو يرسم لوحة.
هذا إذا تجاوزنا الفخ الأول وهو إمكانية الإبداع أصلا، حيث لا يخفي علي أحد ان هناك في عالمنا العربي غير السعيد من لا يزال يصدر الفتاوي التي تقول ان الشعر حرام من الأساس، وأن الصورة تطرد الملائكة، وأن النحت من الكبائر وأن التماثيل هي أصنام القرن الحادي والعشرين!
وآخر هذه الفخاخ المنصوبة دائما، هو ما جري لمجلة »إبداع« التي يرأس تحريرها الشاعر الكبير أحمد عبد المعطي حجازي، حيث قررت الهيئة المصرية العامة للكتاب وهي الناشر لهذه المجلة وقف توزيعها بحجة أنها تتضمن قصيدة للشاعر حلمي سالم تسيئ إلي الذات الإلهية.
ونقلت مصادر صحفية عن الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي قوله ان رئيس الهيئة المصرية العامة للكتاب، الدكتور ناصر الأنصاري قد أبلغه فور صدور العدد بإعجابه الشديد به، وهنأه عليه، وأبلغه أنه قام بإهدائه إلي وزير الثقافة فاروق حسني.
لكن »الأنصاري« عاد بعد بضع ساعات وأبلغ »حجازي« بأنه أصدر قراره بوقف توزيع العدد نتيجة لـ»اعتراض عمال المطابع« بالهيئة.
والواضح ان هذه ذريعة متهافتة، بدليل أن العمال طبعوا العدد بالفعل، وأصبح جاهزا للتوزيع، بل إن دفعة أولي منه تم توزيعها.
إنهم ليسوا عمال المطابع إذاً.. ولا يجب التمحك فيهم، بل الأمر أولا وأخيرا هو قرار الدكتور ناصر الأنصاري الذي أجري حساباته بعد صدور العدد واستنتج أن بعض خصومه يمكن أن يستخدموا قصيدة حلمي سالم لتأليب الرأي العام وقطاعات من الحكومة ضده فقرر أن يسد الباب الذي يمكن أن تهب منه الريح كي يستريح، حتي ولو كان هذا علي حساب مجلة ثقافية تقع في 400 صفحة وتحتوي علي أعمال إبداعية، قصائد وقصص ودراسات أدبية وفنية.
والخطير فيما فعله الدكتور ناصر الأنصاري أنه شبيه بالاستراتيجية الأمريكية التي استحدثتها إدارة بوش، ألا وهي الضربات الاستباقية بحجة اجهاض عمليات في علم الغيب ربما تقع ضد المصالح الأمريكية هنا أو هناك علي ظهر الكره الأرضية.
وبالمثل قرر الدكتور الأنصاري القيام بضربته الاستباقية حتي قبل أن يصل عدد مجلة »ابداع« الي أيدي القراء تحسبا لأية منغصات قد تأتي من نواب الإخوان المسلمين في البرلمان أو حتي من بعض رؤسائه في وزارة الثقافة والحكومة ويحدث له ما حدث من قبل للناقد المعروف علي أبو شادي حينما قررت الحكومة التضحية برأسه في أزمة مماثلة.
ورغم أن »الإخوان المسلمين« لهم سجل حافل في استغلال مثل هذه الحوادث لشن حملات علي الإبداع والمبدعين، فإني اندهش من أن تتركز شكاوي كثير من المثقفين بصدد واقعة مجلة »ابداع« الراهنة علي الجماعة »المحظورة«، رغم انها ليست هي الجهة التي قامت بالاعتداء علي »ابداع«، بل ان »المعتدي« واضح وظاهر للعيان ومعترف بفعلته، ألا وهو رئيس الهيئة المصرية العامة للكتاب، أي رجل الحكومة وليس ممثل الجماعة »المحظورة«.
وربما يضحك قادة »الإخوان المسلمين« في عبهم الآن، ويفركون أيديهم من فرط السعادة وهم يرون بعض رجال حكومة الدكتور أحمد نظيف يقومون بعملهم نيابة عنهم بل وبالمزايدة عليهم والإفراط في النفاق لهم ومحاولة مغازلتهم واسترضائهم وجنبوهم بذلك »شر القتال« بأنفسهم.
وهذا فقدان للاتجاه سواء من بعض رجال الحكومة الذين يزايدون علي جماعة »الإخوان« أو من المثقفين الذين يرون هذه الخيبة بأعينهم ومع ذلك فإنهم يتركون »الحمار« ويتشطرون علي »البردعة« كما يقول المثل الريفي البليغ.
أما عن السبب المباشر الذي تذرع به المسئول الذي قرر مصادرة »ابداع« وهو قصيدة حلمي سالم »شرفة ليلي مراد« فإنها ليست قصيدة جديدة بل تم نشرها من قبل وداخل مصر وليس خارجها في الديوان الأخير للشاعر وقد نفي حلمي سالم ان يكون في هذه القصيدة ما يسيء إلي قداسة الدين أو إلي الذات الإلهية بل لعل العكس هو الصحيح لأن السطور المقصودة هي تنزيه لله عن القهر والتعسف والترصد وأضاف حلمي سالم ان كلمة »الرب« كلمة أكبر من تحصر في المنظور الديني الإسلامي وحده فهي التعبير المستخدم في شتي الديانات السماوية وغير السماوية وهي التعبير المستخدم في الأساطير اليونانية بل هي التعبير المستخدم في الإشارة إلي كل كبير أو مسئول أو مالك مثل رب الأسرة، ورب العمل، وربة البيت وربة الصون والعفاف.. فضلا عن ان القراءة التي اتهمت النص هي القراءة الضيقة المتعسفة، التي لا تصلح لتفسير الأدب.. فالأدب فن مجازي ينبغي أن يقرأ قراءة مجازية وهذه القراءة المجازية لها متخصصون هم نقاد الأدب وعارفوه.
ولم يكن ينقص حلمي سالم بعد هذا الجهد في الدفاع عن قصيدته سوي أن يقسم علي المصحف الشريف بأنه لا يقصد أية اساءة للذات الالهية.
إلي هذا الحد وصل الحال بالمبدعين المصريين، والعرب، حيث هم مضطرون لإضاعة تسعين في المائة من وقتهم في الدفاع عن أنفسهم.. وأمام من؟؟
أمام من ليس له حق توجيه الاتهام أصلا أو حق التفتيش في الصدور.
ولعلها كانت مصادفة بالغة الدلالة أن يحدث ذلك لمجلة »إبداع« في مصر بينما كانت خيبة مماثلة تجري في البحرين حيث تعرض الشاعر البحريني الكبير قاسم حداد لهجوم شرس من جانب نواب الكتلة الإسلامية في البرلمان البحريني اعتراضا علي العرض الموسيقي الشعري الراقص »مجنون ليلي« في افتتاح مهرجان ربيع الثقافة بالبحرين وهو عرض من تأليف قاسم حداد وموسيقي الفنان اللبناني مارسيل خليفة.
وبعدها بساعات قام القائمون علي الرقابة في وزارة الاعلام البحرينية بتحويل رواية الكاتب والروائي البحريني عبدالله خليفة »عمر بن الخطاب شهيدا« إلي وزارة الشئون الاسلامية لاستفتائها حول موضوع الرواية وجواز ادخالها الاسواق.
وقد وصف »المنبر الديموقراطي التقدمي« البحريني هذه الخطوة بأنها »سابقة خطيرة ستكرس نهجا جديدا في التعامل مع المطبوعات«.
وتساءل بيان المنبر الديمقوقراطي التقدمي الذي أرسل إلينا نسخة منه »لا نعلم من سوغ للقائمين علي جهاز الرقابة للاتيان بمثل هذ التصرف فالرواية عمل أدبي بالاساس وفيها من الصور التعبيرية والجمالية والاسقاطات التاريخية التي لا شأن لوزارة الشئون الاسلامية بها.
إن كان القانون علي جهاز الرقابة غير أكفاء أو لا يتمتعون بالقدرة النقدية وتقييم العمل فهذه مسألة يجب علاجها ضمن وزارة الاعلام التي من المفترض أن تكون حاضنة للثقافة والابداع والحصن الذي يحتمي به الكتاب والمبدعون أما أن ينصرف المسئولون بتحويل الرواية إلي وزارة الشئون الاسلامية لاستفتائها حول صلاحية النشر ففيه الكثير من الغبن بحق الكاتب ويحمل نزعة الاتهام في طياته«.
وينتهي بيان المنبر الديموقراطي التقدمي بإدانة مثل هذه الخطوات »التي تعد تفتيشا في ضمائر الكتاب والمبدعين وتحجر علي أفكارهم وتكرس منهجا جديدا للتعامل مع الثقافة والمثقفين«.
ويا له من تزامن عجيب.. حيث الخيبة واحدة رغم تباعد المسافات وجبن صغار كبار وكبار صغار المسئولين واحد، ونفاقهم لتيارات الإسلام السياسي واحد والحائط المائل الذي يفرغون عليه كل احباطاتهم وأزماتهم واحد.. وهو المثقفون والمبدعون!!
والخطير أن الرقابة لم تعد كالسابق محصورة في أجهزة بعينها بل أصبحت شبكة عنكبوتية متعددة الأذرع والرءوس تمارس أشكالا شتي من الحظر والمنع والمصادرة والتشهير والتكفير وتنتشر في كل المؤسسات الاعلامية والثقافية والتعليمية والأكاديمية والدينية وأدت إلي تعميق »الرقابة الذاتية«.
ونتيجة للتزاوج الوظيفي عميق الجذور بين الاستبداد السياسي والاصولية الدينية أصبحت هناك ثقافة سائدة في معظم المجتمعات العربية وتفرض هيمنتها علي الشارع العربي قوامها التخلف ومعاداة الحداثة والتقدم.
وقد أدي هذا العامل الأخير ـ اضافة إلي عوامل أخري ـ في محاصرة العمل الثقافي التنويري علي عكس البيئة التي احتضنت المحافل والمجلات الثقافية في العالم العربي ابتداء من القرن التاسع عشر حيث كانت هذه المجلات الثقافية ـ كما يقول الدكتور جابر عصفور »آلة هدم للعالم القديم والتمهيد لبناء عالم جديد يخلو من كل سلبيات الماضي المتخلف وعوامل جموده ولذلك خاضت المجلات الثقافية معركة النهضة التي اعتمدت علي جهود صناع النهضة الذين جعلوا من مجلاتهم الثقافية وصحفهم سلاحهم في معارك الحريات السياسية والاقتصادية وترسيخ حضور الدولة المدنية وتأكيد حتميتها في مسار التقدم وأشاعوا مبدأ التسامح في الفكر والاعتقاد وحاربوا الطائفية والنزعات العرقية فضلا عن أشكال التميز الراسخة ضد المرأة ودافعوا عن حق المرأة في التعليم والمشاركة الاجتماعية وانفتحوا علي العالم بكل تياراته واستبدلوا العلم بالخرافة كما استبدلوا الأفندي المطربش بالشيخ المعمم والتعليم المدني بالتعليم الديني منطلقين من الموجة الصاعدة للطبقة الوسطي التي اكتسبت من »المدنية« الحديثة ملامحها الاساسية: قبول التعدد العرقي والتنوع الجنسي والتباين الثقافي والاعتراف بحق الآخر في الوجود ولم ينسوا الوقوف في صف أنواع الابداع الادبي والفني والانطلاق منها إلي ما يعدها خصوصا في هذه الأعوام التي تتنكر لأعظم ما أنجزته النهضة من منجزات ثقافية«.
هذا التحليل العميق الذي قدمه جابر عصفور في سياق دراسة المهمة من »المجلات الثقافية بين ميراث الماضي وآمال المستقبل« يصيبنا بحالة من الكرب الشديد ونحن نري مجلاتنا وأعمالنا الثقافية ـ ونحن في الألفية الثالثة وفي القرن الحادي والعشرين ـ يتم محاكمتها سواء في مصر أو البحرين وما بينهما من البلاد الناطقة بلغة الضاد بهذه الصورة الحافلة بالنفاق والجبن وضيق الأفق.
باختصار.. نحن يا سادة نسير إلي الوراء بينما لا نكف عن الثرثرة عن إصلاح يجب أن يدفعنا إلي الأمام.

الحوار المتمدن
16-4-2007

****

خطر الثقافة والجنس

عبدالباري طاهر- (اليمن)

ربما لا نبالغ إن قلنا إن تخلفنا الشامل والكامل قد أزرى بعصور البداوة والجاهلية. فهذه البحرين (أرض دلمون) ومركز الاشعاع الحضاري لآماد متطاولة، وبداية دولة القرامطة، وواحة التمدن والتحديث في مطلع القرن العشرين، تقدم المثل:
شهدت البحرين التعليم الحديث والثانوية العامة في العشرينات والثلاثينات، مشكّلة سبقا على معظم مدن الجزيرة والخليج.
ها هي مملكة البحرين التي لم يكن من مسوغ وقبول لتحولها إلى مملكة دستورية «لبرلتها» لتكون الشمعة الوحيدة في محيطها العربي والاسلامي شديد الظلامية والاستبداد!
ها هي أرض دلمون تشهد انتخابات «حرة وديمقراطية» يتنافس فيها ممثلو العشائر أو بالأحرى العشيرة شبه الوحيدة الآتية من قلب تميم: القبيلة الموزعة على أكثر من ست دول خليجية. ويتبارى فيها زعماء الطوائف الآتون من عصور التخلف والانحطاط والتردي والجاهلية الأولى. فيجيء مجلسها الموقر المكون من (......) جلهم من الاسلام السياسي بمذهبيه: السني والشيعي، وهو اسلام متحالف مع القرون الغابرة ويتساند على جواره الطائفي المتقاتل في ايران والعراق والسعودية.. وما خفي كان اعظم!
كانت الخمسينات والستينات وحتى الثمانينات مواجهة دائمة ومستمرة وممنهجة لقمع التيارات المدنية والحداثية.
وانعكس الجوار القومي والطائفي الخطر، على هذه الدولة الصغيرة نسبياً. وكان غبار حرب الخليج الأولى، والثانية، وحتى الثالثة، اكثر كثافة وإظلاماً في هذه الارض «الشعلة».
ولا ننس الأثر البالغ الذي تركته الثورة الايرانية ذات التوجه الشيعي على جزيرة صغيرة غالبية أهلها من الشيعة بينما الحكم سني.
وكانت الثمانينات والتسعينات وما بعدهما بداية صعود الاتجاهات الاسلامية المسيسة في المنطقة كلها.
والأكثر خطراً: مزج الاسلام السياسي: سنياً كان أم شيعياً، بالبداوة والقبلية، وعصبيات ما قبل عصر الدولة أو الديانات.
في الفترة الاخيرة اجتمع مجلس النواب في مملكة البحرين للمطالبة بتشكيل لجنة تحقيق في مسرحية «ليلى والمجنون». وهي مسرحية شعرية كتبها الشاعر المبدع والكبير حقاً قاسم حداد، ولحنها الفنان الكبير ايضاً مارسيل خليفة. وحداد وخليفة علمان كبيران، ومن رواد الشعر والفن في البلاد العربية. الأول من مؤصلي التجربة الشعرية الحداثية، ومن المناضلين القوميين التقدميين الذين تصدوا، ولا يزالون، للفساد والطغيان والظلامية والبداوة والتخلف. وقد أمضى حداد شطراً من عمره في السجون والزنازن، دفاعاً عن الحرية والحق.
اما رفيقه المبدع مارسيل فهو علم كبير في عالم التلحين والغناء، وله شهرة عالمية. وقد طاف مارسيل في الثمانينات الكثير من المدن والبلدان الامريكية والأوروبية ليعرِّف بالقضية الفلسطينية، وليجمع لها التبرعات مستفيدا من الجاليات الشامية والعربية والاسلامية في هذه المجتمعات.
والمروع ان يكفَّر مارسيل خليفة في مطلع القرن الواحد والعشرين، في لبنان، واحة الديمقراطية في المنطقة العربية كلها، ومركز الحداثة والتحضر والحرية. فلبنان كان ومنذ القرن العشرين مركز الحداثة والتعدد والتنوع، وموئل حرية الصحافة والرأي والتعبير، وكنز الاصدارات الحديثة والرواية والقصة والنقد والشعر الحديث.
كُفر مارسيل لأنه غنى قصيدة محمود درويش «أحد عشر كوكباً»، وهي قصيدة لا تتحدث عن اخوة يوسف ولا عن الآيات القرآنية. وإنما ترمز بالآيات وتسقطها وهو توظيف ادبي وابداعي للقصة والايات الكريمة لحالة الفلسطينيين في علاقاتهم باخوانهم العرب او بالاحرى بالحكام والدول التي يرمز لها بأحد عشر كوكباً. وهؤلاء الحكام قد غدروا بأخيهم يوسف (الفلسطينيين). والقرآن الكريم وظف قصص الأمم الغابرة للاعتبار والاتعاظ. في الادب جرى ويجري استخدام الرموز والابطال والقصص القديمة لاسقاطها على حالات معاشة ومعاصرة. فالمسيح والرسول محمد والحلاج والسهروردي ورابعة العدوية واوديب ونوح... وظفوا كاستخدامات متعددة وغنية: اوديب عند اليوناني سوفكليس غيره عند طه حسين، غيره عند علي الراعي «اوديب انت قتلت الوحش».
قاسم حداد شاعر مبدع بامتداد الأمة العربية، وعمق حضارتها وتاريخها وعبقرية لغتها. وهو لا يختلف عن امرئ القيس، أو عمر بن ابي ربيعة او الاخطل أو المتنبي إلا بتمثله للحياة الجديدة وروح العصر، وتقديم نص مختلف نوعاً عن نص اسلافه حتى من شعراء النهضة.
وقد تعرض حداد ككل رفاقه من شعراء الخليج إلى الاعتقالات المتكررة والتخوين والجلوزة ولكنه واصل درب الابداع عبر عطاءاته المتنوعة والمتعددة. سواء في قصيدته الحداثية أم عبر مجلة «كلمات» أم اصداراته وموقعه المائز والمهم.
شعرت بالخوف على هذا الشاعر الرائع وهو يتعرض لتهم جزاف تمس المعتقد وتمتشق المقدس. وتهم من هذا النوع هي ما أدى إلى قتل السهروردي وصلب الحلاج واغتيال فرج فودة وجار الله عمر، واعدام عالم الدين السوداني محمود محمد احمد طه. ولا ننسى، الحملة الظالمة ضد الفنان التشكيلي لفلسطيني ناجي العلي التي وصلت إلى مجلس الأمة الكويتي واسهم فيها قادة وكتاب وأدباء فلسطينيون وانظمة عربية ليخرج العلي إلى لندن بدون جواز سفر مما سهل اصطياده في لندن في قصة بوليسية لم تكشف جوانبها حتى اليوم، بسبب اشتراك اطراف عديدة فيها.
في البحرين وبعد اسبوع ثقافي زاه قدم فيه الشاعر حداد مسرحيته عن ليلى والمجنون وقام بالتلحين مارسيل، قام مجلس النواب ولم يقعد. فقد شكلت لجنة تحقيق في بعض لقطات عناق تمثيلية.
وبعض عبارات على لسان المجنون. ولكن زعماء الطوائف المنتمين قبلياً إلى مضارب داحس والغبراء اكثر من الانتماء إلى سماحة المعرفة أو الاعتقاد. فهذا الجاحظ يشنع على الذين يتورعون عن ذكر النيك او الحر، ويرى فيهم الورع الجاهل والتدين الغبي والأحمق. ومن هو الجاحظ؟!
ومنهم هؤلاء العتاة الآتون من منابر البداوة والتخلف!؟
أما القاضي عبدالعزيز الجرجاني فقد قال إنه لو حذف شعر الخمر والمجون من ديوان العرب لذهب ثلثاه.
وكان حبر الأمة، عبدالله بن عباس، ينشد بين الأذان وإقامة الصلاة في الحرم قصيدة ابن ابي ربيعة: «أمن آل نعم أنت غاد فمبكر...».
وعندما عاتبه عتاة الخوارج قرأ عليهم قبل الصلاة:
وهن يمشين بنا هميسا
ان يطلع الفجر ننك لميسا
ثم كبر وأم الناس للصلاة.
وقد اورد معظم المفسرين هذا البيت في معنى الرفث.
ان المقلق حقاً ان الاسلام السياسي البدوي والطوائفي هو الذي يتصدى للشأن العام، ويمتلك حق الفتوى في امور لا صلة له بها. فمجلس النواب البحريني، المنقسم طائفياً والموحد قبلياً يتصدى لمسرحية، ويحاكم مقاطع تتحدث عن الغزل، وما دروا أن الرسول الكريم سمع من حسان بن ثابت قصائد التشبيب، كما اعطى بردته لكعب بن زهير بن ابي سلمى على قصيدته اللامية: «بانت سعاد...».
التي تتغنى بالخمر وتتغزل بالمرأة.
الموقف المتزمت من المسرح والتمثيل في عقول هؤلاء يجد تفسيره في التردي والتخلف، اكثر مما يجد تأويله أو سنده في الدين. والموقف من المرأة والاختلاط معيار مهم، فحراس الفضيلة وحماة الاخلاق(!) يرون في المرأة، العورة شراً مستطيراً. وربما كان لرؤية التوراة اثر في الحال اكثر من الكتاب والسنة، كقراءة السيدة عائشة.
ضغط وافتئات زعماء الطوائف الجدد لا يمكن أن يقابل إلا بيقظة وتنادي الادباء والكتاب والمثقفين والمهتمين بالحقوق والحريات في الوطن العربي والعالم لتلجيم كواسر التكفير والتأثيم والتخوين والتفسيق، الذين يتهددون الابداع، ويخنقون الحرية، ويئدون الكلمة والصورة، احفاد داحس والغبراء وان ارتدو لبوس السنة والشيعة. فالثقافة هي الخطر الداهم والعدو اللدود لدعاة الاستبداد وانصار الطغيان وعاظ السلاطين. والهوس بالجنس هو ما يثير الغرائز ويحجب نور المعرفة والحرية.

النداء- اليمن
الخميس , 5 أبريل 2007 م

****

عراق والبحرين بين ربيعين

رضي السماك

كانت الآمال تحدونا بقوة، كما عبرنا هنا أكثر من مرة ونحن نستعيد ذكريات وتراث ربيعنا البحريني الشعبي - الهجري والطقسي - والذي يمتاز بتقاليد وعادات جميلة بديعة من مناسبات الفرح والسرور الخاصة والعامة التي تتخللها الأغاني والرقصات الشعبية في ذكرى
مواليد الأنبياء والأئمة والأولياء الصالحين وحفلات الزواج.. أقول كانت الآمال تحدونا بأن نحفز وننشط شيئا من الذاكرة الجماعية لعل يتصدى بشجاعة نفر من الأخيار المعتدلين من رجال الدين وعامة المثقفين الاسلاميين الذين يتحلون ولو بقليل من الاستنارة والاعتدال لاستعادة شيء من تلك التقاليد الشعبية العريقة البهيجة من أغان ورقصات محتشمة، كما هو الحال لدى كل شعب يعتز بمثل هذا التراث الحضاري، كالشعب الإيراني الذي يعتز بقوة بتراثه القومي ويقدس نظامه السياسي بعض قوانا السياسية ذات الوزن على الساحة السياسية والشعبية. لكن ها هي الرياح ليست تجري بما لا تشتهيه السفن فحسب، بل ومن سيئ الى أسوأ أي فليت الربيع مر بطقوسه الكئيبة التي تكرست على مدى نحو ثلاثة عقود لتمحو كل تقاليد البهجة والبسمة والسعادة المعروفة، لا بل ان رواد تلك الطقوس المستجدة الكئيبة بذلوا كل ما في وسعهم لمنع أي محاولة لاستعادة البسمة حتى لو كانت تجري في عالم نخبة غير نخبتهم وسعوا الى اجتثاثها كأوصياء على الناس وحرياتهم الشخصية. وهكذا جاءت الفضيحة البرلمانية المدوية بتشكيل لجنة لمحاكمة ربيع الثقافة وتصوير فنان مناضل لبناني كبير «مارسيل خليفة« أفنى عمره فنيا في خدمة المقاومة الفلسطينية واللبنانية ضد الاحتلال الاسرائيلي وكأنه ارتكب عملا فاحشا وكانت أغانيه ممنوعة داخل اسرائيل وفي كل الدول العربية طوال عقدين ونيف حيث كانت أشبه بمثابة سلاح معنوي آخر بمعنى الكلمة يلهب صدور رجال المقاومة وعامة الجماهير بالحماسة الوطنية المتدفقة. وكان أينما حل في قطر عربي تتوافد على حفلاته آلاف الجماهير الغفيرة لعدة ليال ويستضاف في هذه البلدان بما يليق بمكانته وقامته. وحتى فضائية حزب الله «المنار« وجدت في أغانيه ما يشحن مقاتليه وجماهيره بالحماسة ورفع المعنويات.. لكن كل هذا التاريخ الناصع الفني الوطني المقاوم الهام لم يشفع لمارسيل خليفة لأنه ارتكب «سقطة أخلاقية« خطيرة جدا لا تغتفر فكأنما لا يمكن المناورة سياسيا لتأجيل هذه القضية باعتبارها قضية الساعة الملحة. ولأن الخطر الماجن الذي قام به اشنع مما مارسته نانسي عجرم فقد قرر المجلس الجديد تشكيل أول لجنة تحقيق برلمانية على الفور باعتبارها أهم قضية جماهيرية آنية ملحة لا تقبل التأجيل. لكن الاسلام السياسي المعارض لم يسأل نفسه مادامت القضية هي أخلاقية بالغة الالحاح لا تقبل التأجيل لماذا الاسلام السياسي الموالي هو دائما السبّاق الأكثر منه يقظة وورعا وغيرة على بيضة الاسلام في المبادرة لهذه القضايا؟ وما إن كدنا نجفف ماء وجوهنا الذي أريق خجلا مع ضيوف البلاد بسبب تلك الفضيحة البرلمانية المدوية حتى تلا ذلك غياب تقليد تاريخي عريق غير مفهوم ألا وهو الاحتفال بالمولد النبوي حتى بشكله الخطابي التقليدي الرتيب المعتاد. والغريب ان هذا يحدث في هذا البلد الصغير المتسامح الذي لم يعرف صراعات أو حروبا أهلية كالتي يعرفها العراق. ومع ذلك فإن هذا البلد كما ذكرنا مرارا مازال قادرا على خلق البهجة والفرح والبسمة واستعادة أشكال من أعراف التسامح والوحدة حتى في أوج ووسط دوّامة العنف الراهنة. ففي البصرة وخلال موسم الربيع الحالي - بمعناه الفصلي والهجري - والمتزامن مع ذكرى تأسيس أحد الأحزاب الوطنية التقدمية العريقة وبحضور آلاف المواطنين أحيت فرقة «الطريق« حفلا فنيا سامرا لقي استحسانا منقطع النظير من قبل الناس التي ملّت وسئمت العنف واحياء تقاليد الأحزان على نحو متشدد مفرط دائم تمتد حتى في أوقات غير المناسبات الخاصة بها وتضمنت الاحتفالات إلى جانب الأغاني الوطنية، أغاني عاطفية عراقية قديمة ورقصات شعبية بديعة. يحدث ذلك في قلب البصرة معقل قوى الإسلام المتناحرة والمتسلطة بالسلاح على الشارع وعلى حياة الناس وحرياتهم الشخصية. وفي بغداد ومناطق أخرى أحيا العراقيون واحدة من الرياضات الشعبية القديمة ألا وهي «مصارعة الديوك«. والطريف ثمة قواعد وقوانين دقيقة صارمة ينبغي لأصحاب الديوك مراعاتها في هذه اللعبة، مثل السن القانونية للديك المتصارع، وعدد الجولات، ومتى يعتبر الديك مهزوما أو يُطرد من حلبة المصارعة، وضبط حالات الغش التي يلجأ إليها أصحاب الديوك المتصارعة لتفادي هزيمة أو إصابة ديوكهم، تماما كقواعد «الأولمبياد«. وهي كما نرى قوانين وقواعد يفتقر إليها ديوك الاسلام السياسي العراقية المتناحرة الآن على حلبة العراق الواسعة والتي يدفع ثمنها من دمائه انهارا الشعب المعذّب!

****

ربيع الثقافة المجنون بهواء الحرية

عبدالله السفر
(السعودية)

عرض تلفزيون الفضائية اللبنانية (إل. بي. سي) مساء الأحد؛ الأول من أبريل 2007 برنامج " أنت والحدث " وقد خُصصت حلقة هذا الأسبوع لمناقشة الجدل الدائر حول عمل مجنون ليلى؛ شعر قاسم حداد وموسيقى مارسيل خليفة، والذي قدم في افتتاح ربيع الثقافة في البحرين على مدار ليلتين (الأول والثاني من مارس) حيث قامت قيامة " الإسلاميين " وطالبوا في البرلمان بلجنة تحقيق حول عرض هذا العمل الذي أثار لغطاً كبيرا بسبب التجسيد المسرحي لرؤية المجنون (الرقص من تصميم نادرة عساف)، وبسبب بعض الكلمات الواردة في النص

إذا، البرنامج يأتي لمناقشة هذا الحدث، في إطار علاقة الشرع بالفن. فاستضاف من البحرين نائب رئيس البرلمان الشيخ عادل المعاودة، ومن القاهرة المفكر الإسلامي جمال البنا. إلى ذلك شارك عن طريق الهاتف جمال فخرو والفنان عمّار الشريعي. وكما حدث في قناة الجزيرة حين استضافت الشيخ المعاودة مع خالد الرويعي، خرج الشيخ بالصور التي يرى أنها تزكّي رأيه وتدين ربيع الثقافة المجنون. الصور ذاتها خرجت في "أنت والحدث" وكأنها اليقين الذي يدفع أي شكٍّ إلى أن يطاول برأسه ويقول لماذا.. كيف ترى بالنظر الحديد إلى شبهة "القذى" ولا تنظر إلى "خشبة" الوالي المنتصبة بين العينين، ورائحتها تفوح كل مساء. الآراء نفسها تتكرّر وفق الآلية المعروفة من الجزئية الصغيرة يخرج التعميم، ثم التضخيم، يلي ذلك الادّعاء أنهم صوت المجتمع، المرفوعة عقيرته للدفاع عن الأخلاق وحمايتها، واستعداء السلطة لوجوب المساءلة والتحقيق. ولا بأس بالعقاب بعد ذلك.

جمال البنا أتى إلى البرنامج بلا خلفية تخصّ الموضوع المطروح، لديه آراء تنويرية إزاء الفن والخيار الشخصي في المشاهدة ودعوة إلى انفكاك الفن عن سلطة الوصاية. ورغم هذه الآراء إلا أن البنا بدا بعيدا عن ربيع الثقافة وما يعنيه. ما في ذهنه هو مسرح القطاع الخاص القاهري بمنحاه الاستهلاكي الغرائزي في غالبه الآن، وليس الفن الذي يتجّه إلى الروح وإلى العقل. لذا مرّت بعض كلماته مرورا ثقيلا غريبا، عن صور العرض المجتزأة والمضخّمة، نحو الابتذال (!) وأن لكل ساقطة لاقط (!!)، وعن الحسنات التي تمحو سيئات المشاهدة (!!)؛ بما يعزّز مقولة الطرف الآخر، وإن كان على الضد في المنطلقات، لكن الصورة المعطاة من البنا هي صورة فقه تبريري؛ تثير الابتسام أحياناً.

ما بدا صلبا وأساسيا في البرنامج هي مداخلة جمال فخرو، من البحرين، ينقض بها مقولة الإجماع على رفض العرض، وتأكيده على حرية الفكر المكفولة دستوريا. وأحسب أن هذا هو التوجّه الذي ينبغي أن ينبني إزاء الممانعة لربيع الثقافة. المسألة في إطار حرية الفكر مقابل سلطة الوصاية ورِهاب الإجماع، وليس نقل النقاش إلى ساحة ليست للفكر ولا للثقافة؛ ساحة المحاكمة بين حدَّي الحلال والحرام.
لنا أن نتحدث عن الصواب والخطأ وعن مساحة الاختلاف بما لا يلغي أحدٌ الآخر، لكن ليس لأحدٍ أن يحملَ مشرطاً يختبر به الثقافة فيما إذا كانت حلالاً أو حراماً، لأن هذه الطريقة لا تلغي عملاً معينا محدودا في الزمان والمكان؛ إنها تجر ذيولها بأثر رجعي يمسح الذاكرة الثقافية من جذورها. هي الوصاية التي تفترض طفولة دائمة في البشر، ولا بدّ من الرعاية والحماية والتأديب.
الوصاية قيد، فيما الحرية هواء لا يمكن للثقافة أن تزدهر بغيره وأن تصنع لها ربيعا بسواه.

02/04/2007م

****

أيهـا الشيخ المعـاودة‮ ‬اسكـت،‮ ‬فاصـل إعــلاني‮ ‬ونـعــود

السعداوي‮ ‬يقرأ ضجة أخبار المجنون‮.. ‬ويحاول أن‮ ‬يفككها

رؤى‮ - ‬عبدالله السعداوي‮ / ‬تحرير‮- ‬مهدي‮ ‬سلمان‮: ‬

على خلفية ما حدث بعد عرض‮ »‬أخبار المجنون‮« ‬للشاعر قاسم حداد والموسيقي‮ ‬مارسيل خليفة من صدام في‮ ‬الساحة البحرينية،‮ ‬ومن محاولة لقمع الثقافة من قبل بعض النواب،‮ ‬يطرح المخرج المسرحي‮ ‬البحريني‮ ‬الفنان عبد الله السعداوي‮ ‬وجهة نظره حول هذا الموضوع،‮ ‬ويخصّ‮ ‬رؤى بهذا الطرح،‮ ‬الذي‮ ‬يحاول فيه أن‮ ‬يقيّم الموضوع بشكل دقيق حسب رؤيته فيضعه في‮ ‬سياقات خمسة،‮ ‬هي‮ ‬الشعر والموسيقى والرقص والشرع والجهة التي‮ ‬هرّبت صور العرض،‮ ‬ويضع في‮ ‬مقابل هذه السياقات التلفزيون بما‮ ‬يمثله من كونه أداة‮ »‬مصلحة تبحث عن الإعلان‮«‬،‮ ‬ويضع في‮ ‬هذا الاتجاه كل ما هو خارج عن حدود ما دعاه بالحكمة،‮ ‬وفي‮ ‬مقابل الحكمة التي‮ ‬يفترض السعداوي‮ ‬أن تكون أساس أي‮ ‬فعل أو ردّ‮ ‬فعل في‮ ‬هذا الموضوع،‮ ‬تقع أخطاء كثيرة،‮ ‬سواء من هذا الطرف أو ذاك،‮ ‬يرصدها السعداوي‮ ‬ويحللها،‮ ‬ويبحث فيها في‮ ‬هذا الموضوع‮: ‬

أريد أولاً‮ ‬أن أذكر بأنني‮ ‬لم أشاهد عرض‮ »‬أخبار المجنون‮« ‬الذي‮ ‬أثار كل هذه الضجة والجلبة،‮ ‬غير أنني‮ ‬رأيت بعض الصور الفوتوغرافية التي‮ ‬استعرضها النواب في‮ ‬جلستهم الشهيرة،‮ ‬وتابعت في‮ ‬التلفزيون بعض المقتطفات الصغيرة من العرض،‮ ‬ولنضع كل ما حدث في‮ ‬خمسة سياقات،‮ ‬السياق الأول أن هناك شعرا،‮ ‬والسياق الثاني‮ ‬بأن هناك موسيقى،‮ ‬والسياق الثالث أن هنالك رقصا،‮ ‬أو فلنقل تعبيرا حركيا،‮ ‬السياق الرابع أن هناك‮ »‬شرعا‮«‬،‮ ‬وهناك سياق خامس هو الجهة أو الشخص الذي‮ ‬هرّب الصور،‮ ‬وهو الجانب‮ ‬غير المعروف،‮ ‬وثمة أسئلة تُطرح في‮ ‬هذا السياق ولا إجابات،‮ ‬فهل أخذ‮ »‬مهرّب‮« ‬الصور مبلغاً‮ ‬ما مقابل نشره لهذه الصور،‮ ‬أم أن ثمة نوايا مبيّتة أخرى مقابل هذا النشر،‮ ‬وهذه أسئلة لا‮ ‬يمكننا الإجابة عنها أو البحث فيها لأننا نجهل من قام بهذا العمل وبالتالي‮ ‬فإننا نجهل نواياه وأغراضه،‮ ‬وفي‮ ‬مقابل هذه السياقات ثمة جانب آخر هو‮ »‬التلفزيون‮« ‬الذي‮ ‬حاول استغلال هذه الحادثة من أجل التكسّب من ورائها‮. ‬

تداخل السياقات‮.. ‬وإشكاليات الفهم

ولنأخذ الآن السياقات بشيء من التفصيل،‮ ‬فأول الأمر هو تقاطع سياقين في‮ ‬هذه القضية هما سياق الشعر وسياق الحركة التعبيرية عبر ما‮ ‬يُدعى بتداخل الفنون والذي‮ ‬يفترض أن‮ ‬يكون مبنياً‮ ‬على أساس أن‮ ‬يخرج هذا التداخل أو التقاطع عبر خلق رؤية مختلفة للمجنون الذي‮ ‬يحمله قاسم عن المجنون الذي‮ ‬يعبّر عن الرقص أو الحركة التعبيرية،‮ ‬أو الموسيقى،‮ ‬ومن المعروف أن الشعر دائماً‮ ‬ما‮ ‬يكون في‮ ‬اتجاهين،‮ ‬أي‮ ‬داخل وخارج،‮ ‬أي‮ ‬أنه‮ ‬يشكّل حالة دائمة من التناقض مع نصوص أخرى،‮ ‬فالشاعر لا‮ ‬يكتب بقدر ما هو‮ ‬ينسخ،‮ ‬والشعر‮ ‬يحاول بقدر الإمكان أن لا‮ ‬يلتزم باللغة القاموسية،‮ ‬إنما‮ ‬يحاول أن‮ ‬يرفع اللغة القاموسية إلى لغة تُعرف بالمجاز،‮ ‬فهم‮ ‬يرفعون هذه اللغة إلى مرتبة أعلى من مستواها العادي،‮ ‬وبالتالي‮ ‬فإننا حين نقرأ لقاسم حداد عبارة‮ »‬أيها الباب الموارب‮« ‬فهو هنا ليس أي‮ ‬باب،‮ ‬إنه باب قد‮ ‬يفتح خيالنا على أبواب عدة متباينة ومتنوعة،‮ ‬وكذلك الشاعر العراقي‮ ‬عبد الوهاب البياتي‮ ‬حين‮ ‬يتخذ من اسم‮ »‬عائشة‮« ‬كاسم ملازم في‮ ‬نصوصه،‮ ‬فإنه بذلك قد حوّل هذا الاسم من مدلوله الأحادي‮ ‬إلى عدّة مدلولات،‮ ‬فعائشة البياتي‮ ‬قد تنبعث،‮ ‬وقد تتشتت،‮ ‬وقد تتحوّل إلى اوزيس أو أوزوريس،‮ ‬وتتشظى الدلالات التي‮ ‬قد‮ ‬يطرحها اسم عائشة لدى البياتي‮.‬
فالكلمة في‮ ‬الشعر لا تحدّها الدلالة لأنها تأخذ أبعادها من المجاز وهي‮ ‬بذلك منفتحة الدلالات،‮ ‬ومن هنا وقعت الإشكالية بين الشعر وبين الرقص أو التعبير الحركي،‮ ‬أي‮ ‬بين الشاعر وبين مؤدي‮ ‬الحركات التعبيرية ومصممها،‮ ‬فالمؤدي‮ ‬الراقص هنا قد سمع الكلمة،‮ ‬غير أنه لم‮ ‬يعطِها مجازها الشعري،‮ ‬ولم‮ ‬يذهب بها إلى خلق حالة في‮ »‬الرقص‮«‬،‮ ‬وبالتالي‮ ‬فقد منحها حالة تعبيرية واحدة،‮ ‬ما منحها حالة‮ »‬لاهوتية صغيرة وأحادية‮«‬،‮ ‬وذلك بسبب أنه لم‮ ‬يكن لديه وعي‮ ‬إدراكي‮ ‬بأسلوب التعامل مع الشعر،‮ ‬وبذلك فقد استسهل المؤدي‮ ‬الراقص‮ »‬ومعني‮ ‬به هنا مصممة ومؤديّ‮ ‬الحركات التعبيرية‮« ‬أن‮ ‬يتناول أقرب الدلالات في‮ ‬سبيل أن‮ ‬يوصل المعنى السهل للمشاهد معتقداً‮ ‬بأن هذه الدلالة تعني‮ ‬هذه المفردة،‮ ‬ومن هنا فيظهر أنه لم تكن ثمة خبرة وإلمام واطلاع لدى‮ »‬المؤدي‮« ‬بفلسفة الحركة،‮ ‬ففلسفة الحركة في‮ ‬اليابان مثلاً‮ ‬تقسم الحركة إلى ست عشرة حالة،‮ ‬وتناول أي‮ ‬حالة من هذه الحالات قد لا‮ ‬يوجز في‮ ‬كتاب،‮ ‬والحركة قائمة أساساً‮ ‬لديهم على الاعتماد على الذات،‮ ‬فالطفل مثلاً‮ ‬لا‮ ‬يمكن وصف ما‮ ‬يقوم به بالحركة إلا بعد أن‮ ‬يعتمد على ذاته،‮ ‬أي‮ ‬أن‮ ‬يتخلّص من الاعتماد على أبويه،‮ ‬والراقص في‮ »‬أخبار المجنون‮« ‬لم‮ ‬يستطع التعامل مع الشعر لأنه لم‮ ‬يستطع التعاطي‮ ‬مع مفهوم المجاز في‮ ‬الشعر،‮ ‬والإشكالية الثانية التي‮ ‬وقع فيها الراقصون كانت إشكالية مع الرقص نفسه،‮ ‬فهم عوضاً‮ ‬عن أن‮ ‬يرتفعوا بالرقص إلى حالة فلسفية وأن‮ ‬يصطادوا من قاموس الرقص حركات تستطيع أن توحي‮ ‬ولا توحي،‮ ‬أي‮ ‬أن تكتب وتمحو في‮ ‬ذات الوقت كما‮ ‬يذهب التفكيكيون،‮ ‬اختاروا أسهل الحركات وأقربها إلى الذهن وعبّروا من خلالها‮. ‬
ولذلك فإنك حين تشاهد الصور التي‮ ‬عُرضت،‮ ‬تُدرك أن الرقص أو التعبير الحركي‮ ‬في‮ ‬العرض كانت تنقصه الفلسفة الحركية،‮ ‬ولندلل على هذه الفلسفة الحركية بمسرحية للفنان جمال الصقر هي‮ »‬مختار المخاتير‮« ‬حيث‮ ‬يرفع المختار الظالم من قبل أهل البلدة بالرماح،‮ ‬كانت هذه الحركة جميلة وتحمل فلسفتها الحركية،‮ ‬وهي‮ ‬بذلك أقوى بكثير من حمل الراقص الذي‮ ‬يأخذ دور قيس على الأكتاف في‮ ‬عرض‮ »‬أخبار المجنون‮«. ‬

بين الشرع والعرف‮.. ‬المحرّم والاحترام

والسياق الثالث هو الشرع،‮ ‬حيث تعاطى من‮ ‬يعتبرون أنفسهم المنافحين عن الشرع،‮ ‬تعاطوا مع الحركة باعتبار أنها ناقضت الشرع،‮ ‬أي‮ ‬بمعنى أنها دخلت إلى منطقة المحرّم،‮ ‬وهي‮ ‬لم تدخل في‮ ‬هذه المنطقة،‮ ‬لأن الشرع دائماً‮ ‬وأبداً‮ ‬وضع محرماته كاملة،‮ ‬ولم‮ ‬يترك لأحد الخيار في‮ ‬أن‮ ‬يزيد من هذه المحرمات أو أن‮ ‬يضع محرّماته الخاصة على الشرع،‮ ‬وحتى الأنبياء لم‮ ‬يسمح لهم الشرع أن‮ ‬يضعوا محرّمات،‮ ‬ذلك أن هذه المسألة مسألة خطيرة،‮ ‬وبالتالي‮ ‬فإن الشرع قد حرّم محرماته وأتى بها واضحة لا لبس فيها،‮ ‬وبدأ‮ ‬يدّرج تحريماته،‮ ‬من الزنا إلى اللواط إلى الخمر،‮ ‬إلى آخره،‮ ‬إلى أن وصل إلى الربا،‮ ‬الذي‮ ‬حرّمه تحريماً‮ ‬قطعياً،‮ ‬وذلك لأنه ليس ذنباً‮ ‬شخصياً،‮ ‬بل هو مسألة تطال المجتمع ككل،‮ ‬وها نحن نرى الآن أنه‮ »‬يمسك من رقبة العالم ككل‮«‬،‮ ‬وها نحن نرى أيضاً‮ ‬أنه حتى الإسلاميين قد دخلوا فيه تحت مسميات عدة من بينها‮ »‬التوريق‮« ‬و»التورّق‮«. ‬
إذاً‮.. ‬وإذا كان العرض لم‮ ‬يتصادم مع الشرع،‮ ‬فإنه قد تصادم مع‮ »‬عرف المجتمع‮«‬،‮ ‬ولكل مجتمع أعرافه وعاداته،‮ ‬فالإنجليزي‮ ‬مثلاً‮ ‬لديه عرف بأن‮ ‬ينظر لمحدثه في‮ ‬عينيه لأنه بذلك‮ ‬يخلخل تمثاله،‮ ‬ويكون أقوى منه،‮ ‬أما الشخص الياباني‮ ‬فإنه لدى الحديث لا‮ ‬ينظر لمحدثه في‮ ‬عينيه،‮ ‬ولذلك فإذا ما نظر له أحد ما في‮ ‬عينيه فإن بذلك سيفهم من ذلك شيئين،‮ ‬فإما أن هذا الشخص لا‮ ‬يفهم أعرافه وعاداته وتقاليده وموروثه،‮ ‬وبالتالي‮ ‬فإنه ربما‮ ‬يتسامح معه،‮ ‬وإما أن هذا الشخص‮ ‬يعرف موروثه وعاداته وأعرافه،‮ ‬ويعني‮ ‬بهذه الحركة أنه‮ ‬يتحداه ويكرهه ويستثيره‮. ‬
وهنا لا بد أن نلحظ أن الرقص في‮ ‬أخبار المجنون لم‮ ‬يدخل في‮ ‬إشكالية مع الشرع ولكنه دخل في‮ ‬إشكالية مع عرف المجتمع،‮ ‬وحتى لو كانت نسبة الرافضين لهذا النوع من الرقص نسبة قليلة،‮ ‬فإن هذه النسبة قد تشكّل عرف من أعراف المجتمع،‮ ‬ولكننا هنا لا بد أن ننتبه إلى أن الراقصين والمؤدين لم‮ ‬يكونوا عارفين بأعراف هذا المجتمع،‮ ‬وهم ببراءة أرادوا أن‮ ‬يؤدوا رقصاً‮ ‬يوصل فكرة الشعر إلى الجمهور‮. ‬

الموسيقى‮.. ‬الوهم واستدعاء الخلق الأول

السياق الرابع هو سياق الموسيقى،‮ ‬والموسيقى‮ »‬وأتحدث هنا عن الموسيقى الراقية‮ - ‬وليعذرني‮ ‬مارسيل خليفة فأنا لا أقلّل من شأنه،‮ ‬ولكني‮ ‬أتحدث عما أعرفه عن الموسيقى الراقية‮ - ‬والموسيقيين الكبار‮« ‬هذه الموسيقى تحاول أن ترفع الإنسان من أردان الأرض إلى المطلق الأول أي‮ ‬البدء الأول‮ - ‬ولا أعني‮ ‬به الله فالله ليس كمثله شيء‮ - ‬بل أعني‮ ‬به الإنسان الأول قبل أن تلوّثه أردان الأرض،‮ ‬فهي‮ ‬عندما تنساب في‮ ‬أذني‮ ‬الإنسان تذهب مباشرة إلى وجدانه،‮ ‬وأنت إذا ما صنعت للموسيقى صورة،‮ ‬فإنك بذلك تقضي‮ ‬على الموسيقى،‮ ‬لأنها فن جمالي،‮ ‬وفن جارٍ‮ ‬كالنهر،‮ ‬والإبداع الموسيقي‮ ‬في‮ ‬جوهره هو إبداع ديني‮ ‬صرف،‮ ‬فهو إرادة‮ ‬يسكنها الاتحاد بالمطلق،‮ ‬وهي‮ ‬إرادة مجنونة تتقدم عبر توترات وتقطعات الجسد،‮ ‬وبفضلها نتمكن من الدخول في‮ ‬تواصلات حميمية مع الزمن‮ - ‬إطار الكائن واللا كائن‮ - ‬ونتحمل ولو إلى حين الشروط‮ »‬السيبرية‮« ‬للوجود،‮ ‬العزلة،‮ ‬السقوط في‮ ‬الزمن،‮ ‬اليأس،‮ ‬اللا معنى،‮ ‬الألم،‮ ‬الكآبة،‮ ‬الخواء،‮ ‬والإحساس المر بنوستالجيا الأصول‮ - ‬حسب‮ »‬هيبة ابراهيم‮« - ‬فنحن نتحد مع الموسيقى كتجربة أنطولوجية لأن الغوص في‮ ‬الموسيقى‮ ‬غوص في‮ ‬الكينونة،‮ ‬والتجذر في‮ ‬ما هو أنطولوجي،‮ ‬بشروط التجذر في‮ ‬ما هو موسيقي،‮ ‬إذ تنقلنا الموسيقى في‮ ‬زمانية ربيعية،‮ ‬وزمانية خريفية،‮ ‬أو العكس أيضاً،‮ ‬تبعاً‮ ‬لأحوال الروح وتقلبات القلب،‮ ‬لذلك فإن الموسيقى هي‮ ‬خطاب‮ ‬يبشّر بالترحال‮.. ‬أي‮ ‬السير اللا متناهي،‮ ‬إنه خطاب لا‮ ‬يرتب الزمن في‮ ‬اتجاه مستقيمي‮ ‬خطي‮. ‬
بعض الإسلاميون‮ ‬يتعاملون مع الموسيقى بحسب حكاية قديمة تقول بأن الشيطان حين أراد أن‮ ‬يفسد الناس،‮ ‬تهيأ بهيئة شاب أمرد جميل وعمل راعياً،‮ ‬وبعد ذلك أمسك بقصبة وصنع منها ناياً،‮ ‬وشرع في‮ ‬العزف وحين سمعه الناس أعجبوا به،‮ ‬وأعجبوا بالصوت،‮ ‬وهنا دخلت إشكالية بعض الإسلاميين مع الموسيقى،‮ ‬غير أننا‮ ‬يجب أن ننتبه هنا إلى أن الشيطان‮ ‬يخلق الوهم،‮ ‬بينما لا تريد الموسيقى الراقية أن تخلق وهما بل تريد أن تستدعي‮ ‬الإنسان الأول من أردان هذه الأرض،‮ ‬وهي‮ ‬بذلك تريد أن تذهب إلى الخيال،‮ ‬وما‮ ‬يذهب إلى الخيال‮ ‬يذهب إلى تأثير ما فوق العقل،‮ ‬فنحن في‮ ‬النهاية لا نستطيع أن نتعاطى مع الدين عبر العقل فحسب،‮ ‬والإسلام لم‮ ‬ينزل فقط من أجل العقل فحسب،‮ ‬وكذلك لم‮ ‬ينزل من أجل الحالة الروحانية فحسب،‮ ‬ولكنه نزل بالحالة الشمولية،‮ ‬أي‮ ‬الإنسان شاملاً‮ ‬وكاملاً،‮ ‬ولذلك قال في‮ ‬سورة الإسراء‮ »‬ولقد كرمنا بني‮ ‬آدم‮«‬،‮ ‬أما الشيطان بحسب الحكاية فإنه لم‮ ‬يصنع ما صنع من أجل الموسيقى بل من أجل الوهم،‮ ‬وهذا‮ ‬يدلّ‮ ‬على أن هناك أنواعا من الموسقى منها ما‮ ‬يرقى بالإنسان ومنها ما‮ ‬يحطّ‮ ‬من قيمته وهذه موسيقى مرفوضة‮. ‬

التلفزيون‮ ‬غير معني‮ ‬بنا جميعاً‮.. ‬على الإطلاق

بعد عرض هذه السياقات‮ ‬يأتي‮ ‬الدور الأخطر للجانب الآخر الذي‮ ‬تعامل مع هذه القضية وهو‮ »‬التلفزيون‮« ‬بما هو أداة تحولّت من أداة تسلية في‮ ‬ساعات محددة،‮ ‬إلى أداة إشهار تعمل على مدى زمني‮ ‬مفتوح،‮ ‬وبذلك فصارت هذه الأداة تدخل الأشياء في‮ ‬الاستعراض،‮ ‬و»التلفزيون‮« ‬بذلك لا‮ ‬يعني‮ ‬له قاسم حداد بشيء،‮ ‬ولا عبدالله السعداوي،‮ ‬ولا مارسيل خليفة،‮ ‬ولا عادل المعاودة،‮ ‬ولا علي‮ ‬سلمان،‮ ‬ولا الشرع،‮ ‬ما‮ ‬يعني‮ ‬التلفزيون هو مدى استفادته من هؤلاء الناس،‮ ‬وأعمل هذه الضجة في‮ ‬سبيل أن أحصل على الإعلانات،‮ ‬ونحن الآن نعيش داخل هذه السوق،‮ ‬وكل ما حولنا أصبح داخلاً‮ ‬في‮ ‬حالة التسويق هذه،‮ ‬منذ الصباح حتى المساء،‮ ‬وأنت تتجول في‮ ‬الشارع،‮ ‬في‮ ‬البيت،‮ ‬وتأتي‮ ‬أمام التلفزيون،‮ ‬والإعلانات موجودة وحاضرة،‮ ‬وفي‮ ‬منتصف ما‮ ‬يطرحه في‮ ‬أي‮ ‬قضية،‮ ‬يتوقف ليقول للشيخ المعاودة‮.. ‬اسكت،‮ ‬أو‮ ‬يقول لجمال البنا‮.. ‬اسكت،‮ »‬فاصل إعلاني‮.. ‬وبعدها نعود‮«‬،‮ ‬وهكذا تمر خمسة‮.. ‬ستة‮.. ‬سبعة‮.. ‬إعلانات،‮ ‬ثم‮ ‬يسلّم هذه القضية لتلفزيون آخر،‮ ‬ومن خلال إدخال أية قضية‮ - ‬ومن بينها قضية أخبار المجنون هنا‮ - ‬بمن فيها إلى حالة الاستعراض،‮ ‬تتزايد الإعلانات،‮ ‬وتربح التلفزيونات،‮ ‬وكل شيء خارج الاستعراض‮.. ‬يجب أن لا‮ ‬يكون موجوداً،‮ ‬وهكذا فإن الاستعراض هو الذي‮ ‬يحكم هذا الواقع الذي‮ ‬نعيشه،‮ ‬فهي‮ ‬إذاً‮ ‬حرب الكل ضد الكل‮. ‬
وهنا أيضاً‮ ‬استطاع التلفزيون أن‮ ‬يرفع سقف إعلاناته على حساب هذه القضية،‮ ‬وعلى حساب الشيخ عادل المعاودة وغيره‮ - ‬وأنا لا أشكك في‮ ‬مصداقيته أو إيمانه‮ - ‬ولكن المشكلة التي‮ ‬وقع فيها الشيخ استفاد منها هذا الجهاز الثرثار والكاذب،‮ ‬ذلك أن مذيعي‮ ‬التلفزيون حين‮ ‬يحدثونا،‮ ‬حين‮ ‬يقولون سيداتي‮ ‬سادتي،‮ ‬فنحن ندرك أنهم لا‮ ‬يرونا وأنهم‮ ‬ينظرون للكاميرا،‮ ‬ويتكلمون للكاميرا،‮ ‬وهذا الجهاز‮ ‬يبحث عن الإعلانات وحسب،‮ ‬ولذلك لم‮ ‬يسمح لمن أثاروا هذه القضية بأن‮ ‬يتذكّروا بأن لله اسم‮ ‬يُدعى به هو الستّار،‮ ‬وقد كان بإمكان من أثار هذه المشكلة أن‮ ‬يأخذوا هذه الصور،‮ ‬وأن‮ ‬يذهبوا للوكيل المساعد لشؤون الثقافة والتراث الوطني‮ - ‬على اعتبار أن قطاع الثقافة هو الجهة القائمة على العرض‮- ‬ويستدعي‮ ‬قاسم حداد،‮ ‬ويتحاور معهم بما‮ ‬يراه من وجهة نظره،‮ ‬غير أن هذا الجهاز لا‮ ‬يمكن أن‮ ‬يسمح بحدوث ذلك ويضيّع على نفسه فرصة التكسّب من وراء هذه القضية‮.‬

العلمانيون‮.. ‬وفهم الساحة

يبدو أن الكل‮ ‬يفتقدون لحالات الذاكرة والتذكّر،‮ ‬فالإخوة العلمانيون حينما دخلوا على الخط،‮ ‬وحاربوا باسم التنوير وغيره من المصطلحات،‮ ‬وهم للأسف‮ ‬يستخدمون مصطلحات انتهى منها الزمن،‮ ‬وأخذت مفهوما آخر،‮ ‬وبعدا آخر،‮ ‬فالتنوير إن كان قد صحّ‮ ‬في‮ ‬أوروبا في‮ ‬فترة من الفترات،‮ ‬فهو هنا لا‮ ‬يصحّ،‮ ‬وكذلك الظلامية إن صحّت في‮ ‬أوروبا،‮ ‬فهي‮ ‬لا تصّح كمصطلح هنا،‮ ‬والكنيسة وتدخّلها في‮ ‬الحياة العامة شيء،‮ ‬والإسلام وتعامله مع الحياة العامة أمر آخر،‮ ‬وكذلك الرجعية التي‮ ‬لا تعني‮ ‬في‮ ‬مفهومها الأصلي‮ ‬نوع من الشتم أو السب،‮ ‬بل هي‮ ‬توصيف لحالة معينة،‮ ‬وإذاً‮ ‬فالرجعية التي‮ ‬تعني‮ ‬العودة أو الرجوع للماضي‮ ‬قد لا تعني‮ ‬ما‮ ‬يريده البعض أن‮ ‬يفهم منها،‮ ‬فليس كل ماضٍ‮ ‬هو أقل قيمة من الحاضر،‮ ‬وأنت حينما تقرأ كتاب‮ »‬عربات الآلهة‮« ‬فأنت سترى أن هذا الرجل‮ ‬يحاجج بأن أنكيدو وصف الأرض بوصف دقيق،‮ ‬وأن الناس كانوا‮ ‬يعتقدون بأن هذا الوصف الخيالي‮ ‬الذي‮ ‬وصف به أنكيدو الأرض كان وصف شاعر وفنان وفي‮ ‬نهاية المطاف أسطورة،‮ ‬غير أن هذه الأسطورة تريد أن تأخذك إلى البدء الأول‮ - ‬وهي‮ ‬بذلك تلتقي‮ ‬مع الموسيقى‮-‬،‮ ‬ولكن حينما اخترع الإنسان طائرات معينة تصل إلى بعد معيّن عن الأرض،‮ ‬وجدوا أن ما قاله أنكيدو عن الأرض،‮ ‬هو كلام دقيق جداً،‮ ‬ما جعلهم‮ ‬يتساءلون إن كان أنكيدو قد رأى الأرض من هذه المسافة،‮ ‬وكيف استطاع إن كان فعل أن‮ ‬يصل إلى هذه المسافة،‮ ‬وإذا ما قرأت الملحمة الهندية‮ »‬المهابهاراتا‮« ‬حين تصف المعارك والقذائف،‮ ‬فلسوف تضع‮ ‬يدك على رأسك،‮ ‬وتقول بأنه‮ ‬يصف القنبلة النووية،‮ ‬فلماذا عرف هذا الرجل القنبلة الذرية قبل أن تُخترع،‮ ‬وهنا‮ ‬يثبت أن الخيال أرقى بكثير من العقل‮.‬
للأسف الشديد نحن في‮ ‬البحرين لدينا عقول كبيرة وشهادات عليا،‮ ‬غير أننا تنقصنا الحكمة،‮ ‬والسوق‮ ‬يستفيد ممن تنقصهم الحكمة،‮ ‬وهذا‮ ‬يجعل الناس تتوه في‮ ‬متاهات لا معنى لها،‮ ‬ولو أن العلمانيين رجعوا لعام ‮٥٨٩١‬م حيث عقد المؤتمر الثاني‮ ‬لوزراء التربية،‮ ‬وقد اجتمع في‮ ‬هذا المؤتمر خمسمائة مفكر،‮ ‬كانوا كلهم علمانييين،‮ ‬وقالوا أشياء كثيرة من بينها أن أحد هؤلاء استدعى جون بول سارتر في‮ ‬مقولته‮: »‬إن المثقف هو الشاهد على المجتمعات الممزقة التي‮ ‬تنتجه،‮ ‬لأنه‮ ‬يستبطن تمزقها بالذات،‮ ‬وهو بالتالي‮ ‬ناتج تاريخي،‮ ‬وبهذا المعنى لا‮ ‬يسع أي‮ ‬مجتمع أن‮ ‬يتذمر من مثقفيه،‮ ‬من دون أن‮ ‬يضع نفسه في‮ ‬قفص الاتهام

الايام- 14 ابريل 2007

****

ربيـع الثقافــة في‮ ‬محرقــة الثنائــيات الحـــادة

محمد العباس‮- (السعودية)

ربيع الثقافة ليس شأنا ثقافياً‮ ‬وحسب،‮ ‬بل قضية من قضايا التحدي‮ ‬والتغيير الإجتماعي،‮ ‬أو هكذا تم تصميمه كمهرجان فني،‮ ‬وأريد له أن‮ ‬يكون كذلك من خلال المجابهة المفروضة على المثقف البحريني‮ ‬كاستكمال لمعركة تاريخية ممتدة في‮ ‬الحياة العربية،‮ ‬بمعنى أن رسالته الضمنية قد وصلت،‮ ‬وإن بشكل صدامي‮. ‬ولكي‮ ‬لا‮ ‬يتحول إلى مجرد ضجة عابرة،‮ ‬يتم من خلالها تمرير الزائف من المنتج الثقافي،‮ ‬وتأخير لحظة الاستحقاق في‮ ‬الحياة السياسية والاجتماعية‮ ‬يفترض أن‮ ‬يكون المثقف العربي،‮ ‬وليس البحريني‮ ‬وحسب،‮ ‬على درجة من الفطنة والانتباه والموضوعية قبل التورط الدوغمائي‮ ‬في‮ ‬هذا الحدث،‮ ‬والاصطفاف الآلي‮ ‬إلى جانب فريق نكاية بتيار مضاد‮.‬
المهرجان ليس مجرد فسحة ترفيهية للترويح عن النفس بالفلامنجو والكوريغرافيا والجاز،‮ ‬أو للإجابة بكسل‮ (‬المستلقي‮) ‬لا بوعي‮ (‬المتلقي‮) ‬على سؤال الأجندة اليومية‮ (‬أين تذهب هذا المساء‮!!‬؟‮) ‬ولكنه حدث إبداعي‮ ‬يأخذ تداعياته في‮ ‬عصر‮ ‬يؤكد على الأهمية الفائقة للصناعات الثقافية،‮ ‬ويحتم شيئاً‮ ‬من التوجيه الإستراتيجي‮ ‬لمفهوم ومعنى ووظائفية الثقافة،‮ ‬حيث تتم إعادة ابتكار الحياة الإجتماعية،‮ ‬عبر عمليات معقدة،‮ ‬بتخليق وسائط فاعلة
بين الثقافة والإقتصاد والسياسة،‮ ‬وهو ما‮ ‬يعني‮ ‬أن‮ ‬يكون لدى المثقف رؤية منفتحة لمفهمة هذا الحدث واستتباعاته‮.‬
إثر الاحتجاج النيابي‮ ‬على عرض‮ (‬مجنون ليلى‮) ‬لقاسم حداد ومرسيل خليفة،‮ ‬توالت البيانات الاستنكارية المضادة ضد محاولات قمع حرية التعبير الفني‮. ‬وكالعادة،‮ ‬تناوب المثقفون العرب على تصدير بيانات التأييد المجانية المؤكدة على حرية الرأي‮ ‬والإعتقاد،‮ ‬فيما‮ ‬يبدو محاولة بائسة من محاولات المثقف المستنقع في‮ ‬أيدلوجيا الفراغ،‮ ‬لنصب حائط مبكى جديد،‮ ‬والدخول في‮ ‬نوبة من الانتحاب،‮ ‬رثاء للحريات المهدورة،‮ ‬وتأسيساً‮ ‬لزارٍ‮ ‬من المزايدات على القيم والعناوين والشعارات البراقة،‮ ‬دون أن‮ ‬يبدي‮ ‬أي‮ ‬مثقف استعداده لطرح المعنى السوسيو-ثقافي‮ ‬لحدث بحجم‮ (‬ربيع الثقافة‮) ‬أو تصعيد المعنى الرمزي‮ ‬لهذا التجابه الذي‮ ‬يكرر نفسه بشكل دوري،‮ ‬باختلاف المواقع والأسماء مع الاحتفاظ بنفس العناوين واللافتات،‮ ‬أي‮ ‬الإتكاء على مفهوم ثقافي‮ ‬أحدث،‮ ‬وأكثر فاعلية،‮ ‬كرد جمالي‮ ‬على ما‮ ‬يحاوله الطرف المتحفظ من مساءلة مشروعة في‮ ‬حدها الموضوعي‮ ‬عندما تلامس حتى مفهوم الاستثمار في‮ ‬الإنسان‮.‬
ولفهم بعض مجريات الحدث لا بد من التفاتة إلى الوراء،‮ ‬ففي‮ ‬العام الماضي‮ ‬انقسم المثقف البحريني‮ ‬على نفسه إثر الإعلان عن الفصل الأول من ربيع الثقافة،‮ ‬إحتجاجا على ما اعتبر حينها تهميشاً‮ ‬للثقافة البحرينية،‮ ‬وإهداراً‮ ‬متعمداً‮ ‬لمعنى الثقافة،‮ ‬أو تبخيساً‮ ‬مقصوداً‮ ‬لدور المثقف البحريني،‮ ‬إذ لم‮ ‬يتضمن البرنامج أي‮ ‬فعالية تتناسب مع دوره وفاعليته وريادته الحداثية في‮ ‬الخليج،‮ ‬حتى صار المهرجان مجرد محاولة استعراضية لإسقاط ثقافة نخبوية نائية في‮ ‬قلب المشهد الثقافي‮ ‬البحريني‮ ‬لقهره بحداثة‮ ‬غير متأتية ضمن ذلك المشهد،‮ ‬وهو أمر تم تفاديه هذا العام،‮ ‬أو الالتفاف عليه بمعنى أدق،‮ ‬بترصيع برنامج المهرجان بأسماء ذات سمعة ابداعية تعصمه من تهمة التهميش،‮ ‬ولكنها لا تسبغ‮ ‬عليه صفة الثقافة الجماهيرية التفاعلية،‮ ‬ولا تطبعه بالسمة الصدمية للفن المنذور لخلخلة الأنساق الثقافية والاجتماعية‮.‬
ولأن المشهد الثقافي‮ ‬البحريني‮ ‬لا‮ ‬يخلو من حيوية أصيلة ارتفعت بعض الأصوات المنادية بتأوين السجال في‮ ‬مواضعاته الثقافية وعدم حرفه عن استتباعاته الموضوعية،‮ ‬لكشف حيلة‮ (‬البحرنة الشكلية‮) ‬لدرجة أن الفنان أنس الشيخ خاف في‮ ‬مقالته اللافتة‮ (‬وطني‮... ‬استعد‮... ‬استرح‮... ‬للخلف در‮) ‬أن تتساوى الأمور في‮ ‬لحظة بين أخلاقيات قاسم حداد وأخلاقيات السلطة فطارده بوابل من الأسئلة الودودة‮ (‬ألا‮ ‬يعلم قاسم أن هناك كثيرين شعروا أن حب قاسم هو حب أناني‮ ‬وذاتي؟ وألا‮ ‬يعلم قاسم أن كثيرين أيضاً‮ ‬لم‮ ‬يشعروا بتاتاً‮ ‬بدفاعه عن الحب واعتبروا دفاعه هذا مزيفاً‮ ‬ودعائياً‮ ‬واستعراضياً‮). ‬لكن تساؤلاته المشروعة لم تجد لها مكاناً‮ ‬في‮ ‬وعي‮ ‬المتجابهين الذين أخذوا السجال‮ - ‬بمكر‮ - ‬إلى هبائية الثنايات الحادة‮.‬
وإذ تم تجاوز الجدل حول جدوى ومعنى ذلك الربيع الثقافي‮ ‬وسط بهجة التجذير للمهرجان،‮ ‬واعتماده كحدث إبداعي‮ ‬حولي،‮ ‬انتفى السجال الثقافي،‮ ‬وركن المثقف كعادته إلى محاولات المؤسسة لاستدماجه في‮ ‬كرنفال استعراضي،‮ ‬يحيله من مثقف فاعل ومنتج إلى مجرد مستهلك‮ ‬يتنزه على حافة الحدث،‮ ‬ليفاجأ بقوة محافظة كامنة،‮ ‬لا تتربص بالمهرجان كحدث وحسب،‮ ‬بل بمعنى الثقافة كرافعة للتغيير،‮ ‬والمفاجأة الأكبر أن المثقف البحريني‮ ‬انتبه على أكذوبة التسالم الاجتماعي،‮ ‬ووهم الاستبشار بوجود تيار ديني‮ ‬يؤمن بالتعددية والاختلاف والحداثة،‮ ‬على حلفية ربيع البحرين الديمقراطي،‮ ‬وهو ما‮ ‬يعني‮ ‬أن‮ (‬استملاك الشارع‮) ‬الذي‮ ‬حاول نادر كاظم تفكيك تداعياته الطائفية والمذهبية في‮ ‬كتابه‮ (‬طبائع الاستملاك‮: ‬قراءة في‮ ‬أمراض الحالة البحرينية‮). ‬
مسألة تتجاوز المقروئية التاريخية والعقائدية،‮ ‬إلى استراتيجية على درجة من التعقيد الاجتماعي،‮ ‬لا‮ ‬يفترض أن تهب المؤسسة الرسمية صك البراءة،‮ ‬ولا تنفصل بحال عن طبيعة الصراع السياسي‮ ‬الذي‮ ‬يراد له أن‮ ‬يراوح في‮ ‬بؤر التوتر الهامشية والمضائق المفتعلة،‮ ‬بحيث لا تنفتح مشاريع التغيير على اتساعها‮.‬
يمكن فهم حالة الاصطفاف السريعة والمتماسكة حد التحالف بين القوى المحافظة على اختلاف توجهاتها وانتماءاتها المذهبية،‮ ‬ولكن‮ ‬يصعب تفهم المغزى من وراء دفاع المثقف البحريني‮ ‬بحماس عن مشروع لا‮ ‬يمثل وعيه لمفهوم الفعل الثقافي،‮ ‬ولا‮ ‬يحقق تطلعاته الاستراتيجية،‮ ‬بل‮ ‬يبدو من الغرابة استماتة بعض المثقفين في‮ ‬السخرية من الطقس الديمقراطي‮ ‬لتمرير مشروع‮ ‬يمارس فيه أقصى درجات الإقصاء على المثقف،‮ ‬ويقصى منه رموزه الفكرية أو من‮ ‬يعرفون بمنتجي‮ ‬المعرفة‮. ‬ويزداد الأمر‮ ‬غرابة عندما‮ ‬يقع هذا المثقف بسرعة خاطفة في‮ ‬محرقة‮ (‬الثنائيات الحادة‮) ‬تغافلاً‮ ‬عن طبيعة الصراع،‮ ‬واصطفافاً‮ ‬آلياً‮ ‬في‮ ‬جبهة تراهن على مبيان القوة،‮ ‬وهي‮ ‬لعبة قديمة تتقنها التيارات المحافظة بالتواطؤ مع مفاعيل على درجة من الجاهزية لتأخير الاستحقاقات السياسية والإجتماعية والحقوقية،‮ ‬بإلهاء المثقف على حافة التقدمي‮ ‬والرجعي،‮ ‬العلماني‮ ‬والسلفي،‮ ‬المتنور والأصولي‮ ‬وهكذا‮.‬
ثمة محاولة ملتوية لتثبيت عنوان مضلل لما‮ ‬يحدث من اشتباك تتواطأ عليه المؤسسة الرسمية،‮ ‬بالتعاضد مع تحالف التيارات الدينية المحافظة،‮ ‬وفصيل من المثقفين المطبّعين،‮ ‬إذ‮ ‬يحاول كل أولئك تسمية ما‮ ‬يحدث خارج واقعيته،‮ ‬فهو حسب مخططهم حالة صراعية بين مفاعيل الحداثة والقدامة،‮ ‬أي‮ ‬تقديم المثقف ككبش فداء قبالة قوى تمتلك من الرغبة والقدرة على تأسيس محاكم تفتيش للضمائر،‮ ‬بحيث تعمل كماكينة تعطيلية للحظة الاستحقاق،‮ ‬فهذا الحلف الخفي‮ ‬بين القوى المعطّلة لا‮ ‬يعي‮ ‬أثر المثقف الحقيقي‮ ‬ودوره في‮ ‬تعجيل الاستحقاقات وحسب،‮ ‬بل‮ ‬يجيد ابتكار طراز ثقافي‮ ‬مضاد واستثماره على الدوام لفصل الأداة عن المعنى الثقافي‮.‬

www.m-alabbas.com
m_alabbas@hotmail.com

الايام- 14 ابريل 2007

****

في وصف حالنا

يوسف القعيد
(مصر)

قال لي الحاج محمد مدبولي ] صاحب مكتبة المدبولي الشهيرة  [إن مسرحية الدكتورة نوال السعداوي‏ "الإله يقدم استقالته في مؤتمر القمة"‏,‏ صدرت طبعة أولي منها‏.‏ وعند تجهيز الطبعة الثانية عرف ان فيها تطاولا علي الله سبحانه وتعالي‏.‏ قرأها كلمة كلمة‏، واكتشف ان طباعتها كانت خطأ لا يجب الاستمرار فيه‏.‏ فقرر حرق الكمية التي كانت قد طبعت‏.‏ وقبل أن أقول له إن التعامل مع الكتابة يكون بكتابة أخري‏، وأن حرق الكتب مسألة مدانة في التاريخ‏.‏ قال لي‏:‏ كله إلا هذا‏.‏ لأن الأمر عندما يتصل بالله وكتبه ورسله‏، لا مجال للكلام‏، مع العلم أن طباعة أعمال نفس المؤلفة الأخري ونشرها مستمر لديه‏.‏

وفي دمشق، وفي محاضرته أمام طلاب السنة الرابعة في التعليم المفتوح بقسم اللغة العربية بالجامعة‏، اتهم الدكتور حسين جمعة‏ رئيس اتحاد الكتاب العرب‏ الكاتب المسرحي سعد الله ونوس بسرقة أعمال الرائد أبوخليل خليل القباني‏.‏ بعد أن أخذ ونوس جملة من القباني وصاغها صياغة جديدة في حالة سرقة واضحة‏.‏ صحيح أن حسين جمعة بعد انفجار القضية عربيا حاول التراجع عما قاله عندما أوضح أن الكلام جزء من محاضرة ألقيت قبل عامين‏، ولم يكن وقتها أمينا لاتحاد الأدباء العرب‏، وأنه سينشر قريبا النص الكامل لمحاضراته التي أضرها الاجتزاء الصحفي‏، لكن الواقع يبقي أصدق إنباء مما يقال‏.‏

والذي حدث أن زوجة ونوس‏,‏ فايزة الشاويش، عندما تقدمت للاتحاد بطلب معاش سنة‏2007‏ رفض الاتحاد‏، وقال لها المستشار القانوني إن اعتبار سعد الله ونوس كاتبا مسرحيا افتراض قانوني وليس حقيقة ثقافية‏.‏

يذكر أن ونوس كان قد استقال من عضوية الاتحاد سنة‏1979,‏ احتجاجا علي فصل الاتحاد الشاعر أدونيس من عضويته‏.‏ بتهمة التطبيع الإسرائيلي‏.‏ وبعيدا عن التفاصيل فإن كاتبا بقامة سعد الله ونوس‏,‏ لا يمكن أن يعامل بهذه الطريقة الدفترية‏، ولا بحسابات الربح والخسارة‏.‏ وأتصور أن محمد سلماوي رئيس اتحاد الكتاب العرب يمكنه منح عضوية فخرية لسعد الله ونوس وتقديم معاش استثنائي لزوجته‏، ولا أقول أرملته‏.‏ فسعد مازال حاضرا بإبداعه المسرحي وسلوكه الانساني الرائع الذي سبق زمانه في اجتهاداته المسرحية‏، خاصة أن أربعين عاما مرت علي نكسة الخامس من يونيو التي شهدت ميلاد سعد الله ونوس المسرحي بمسرحيته التي هزت أركان المسرح العربي كله‏، مسرحية "حفلة سمر من أجل خمسة حزيران"‏.‏

وفي بغداد انفجرت سيارة في شارع المتنبي‏، ماليء الدنيا وشاغل الناس، فأصبح مقهي الشاهبندر أثرا بعد عين‏.‏ أما المكتبات التي كانت عامرة بالكتب‏، فتحولت إلي خراب‏.‏ وكان هذا الشارع آخر ملاذ للمثقف العراقي ليشتري الكتب المستعملة من مكتباته ويجلس علي مقاهيه‏.‏ وعلاوة علي المقهي الذي دمر تماما‏، كان هناك مقهي أم كلثوم‏.‏ إن هذا الحصار دفع عددا من المثقفين العراقيين لتأسيس مجلس للثقافة في العاصمة الأردنية عمان‏، حتي يكون لهم كيان‏، بعيدا عن تفجيرات بغداد التي لا تبدو لها نهاية في الأفق‏.‏

وفي البحرين صوت‏32‏ نائبا من أصل‏40‏ يمثلون مختلف الكتل السياسية في البرلمان علي تشكيل لجنة للتحقيق مع وزير الإعلام البحريني‏ حول مهرجان ربيع الثقافة‏، لأن بعض مشاهد العرض الافتتاحي‏ "مجنون ليلي‏"‏ المأخوذ عن كتاب الشاعر البحريني قاسم حداد‏، بتلحين مارسيل خليفة‏، اعتبرها البعض‏ تحتوي علي لقطات استعراضية خليعة‏.‏ انصرف واحد من الجمهور عندما شاهدها لاحساسه أنها خادشة للحياء‏.‏ هذا علي الرغم من أن أغلبية الحاضرين أكملوا العرض حتي نهايته‏، خاصة أن كاتبه شاعر كبير ليس في البحرين ،‏ ولكن في الوطن العربي‏.‏

هل انت في حاجة للمزيد؟ لدي فصول ما جري في فلسطين‏ تكمل حكاياتي الحزينة‏، عندما تصدت حماس لقصيدة مقررة علي الطلاب‏، مع أن حماس كان يذكر لها ولحزب الله أيضا عدم التصدي للابداع‏، باعتبار أن لديهما قضايا وطن‏ لا تترك لهما ترف الكلام عن الإبداع‏.‏ ولكن خطأ وزير التربية والتعليم الحماسي‏، عندما وجد وقتا وسط الهم الفلسطيني غير العادي‏ ومشاكل المواطن اليومية‏ والحصار الدولي‏ والقضية المعلقة بلا حل‏ ومشاكل حماس مع منظمة التحرير‏ .. وسط كل هذا وجد الوزير وقتا ليغتال قصيدة "الطير المسافر‏"‏ لسبب أتفه من أن يذكر‏.‏

كما قال لي شاعر فلسطين محمود درويش‏، وتقول وكالات الأنباء، إنه أمر بجمع نسخ الكتاب المقرر علي التلاميذ‏.‏ الذي توجد القصيدة بداخله‏ وأمر بحرقها‏.‏ لن أصدق وكالات الأنباء العالمية‏، ولا أتصور أن في فلسطين الآن فلسطينيا واحدا عاقلا يمكن أن يجد وقتا لمطاردة قصيدة‏ مهما كان ما بها‏.‏ ثم إن حرق الكتب لا يذكره التاريخ إلا عندما جاء التتار إلي بغداد‏، وعندما وصل النازيون في ألمانيا والفاشيون في ايطاليا إلي الحكم‏.‏

عموما التاريخ يحدث كمأساة أولا، ولكن عندما يستعاد يتحول لمهزلة‏.‏ أتمني ألا يخرج ما حولنا عن كونه مهزلة‏.‏

أقرأ أيضاً: