الذين يجهدون أنفسهم اليوم بالتفتيش عن نصوص قاسم حداد، ويجهدون عيونهم بالتدقيق بين سطورها، ويجهدون عقول الناس لإخضاعها للتفسير الذي استنتجوه يبدون كأنهم حاطبو ليل.. يشعلون نيرانهم في الأخضر واليابس ولا يريدون أن يفهموا أن دخان العطب قد زكم الأنوف حتى النخاع!
إن وضع هؤلاء المفتشين المحققين تحت مجهر النقد، خصوصاً في هذه الظروف، ديناميت.. ذلك أن بعض الحق في الموضوع قد لا يعجب من يطلق عليهم ''مشايخ''، كما أن بعضه الآخر قد لا يعجب من يطلق عليهم ''نواب''، ولكن لابد مما ليس منه بد، ذلك أن واقع خلط الأوراق الآن يفرض على الجميع التعامل مع الديناميت ومحاولة إبطال مفعوله.
الذين يجهدون أنفسهم اليوم بالتفتيش عن نصوص قاسم حداد، ويجهدون عيونهم بالتدقيق بين سطورها، ويجهدون عقول الناس لإخضاعها للتفسير الذي استنتجوه يبدون كأنهم حاطبو ليل.. يشعلون نيرانهم في الأخضر واليابس ولا يريدون أن يفهموا أن دخان العطب قد زكم الأنوف حتى النخاع!
إن وضع هؤلاء المفتشين المحققين تحت مجهر النقد، خصوصاً في هذه الظروف، ديناميت.. ذلك أن بعض الحق في الموضوع قد لا يعجب من يطلق عليهم ''مشايخ''، كما أن بعضه الآخر قد لا يعجب من يطلق عليهم ''نواب''، ولكن لابد مما ليس منه بد، ذلك أن واقع خلط الأوراق الآن يفرض على الجميع التعامل مع الديناميت ومحاولة إبطال مفعوله.
دعوني أشرح وجهة نظري، وأنا أحب أن أكون صريحاً إلى أبعد الحدود.. فبعض الناس الذين بيننا يقومون بدور غريب عجيب.. بعضهم أتاح لنفسه أن يفتي ويوجه أصابع الاتهام ذات اليمين وذات الشمال بينما هو لا يمتلك أدنى مواصفات المفتي.. وبعض آخر رأى في نفسه ناقداً هماماً فراح يحدد لنا مستوى الأعمال الفنية، وأوجه القبح والجمال، دون أن يتوفر على بضاعة تسمح له بذلك.. وبعض آخر فتح الباب على مصراعيه للسب واللعن والولاء والبراء، فمضى يتبرأ من قاسم حداد، ويلعن ربيع ''الفجور''. ولا ندرى كيف سيتوقف هذا الانجراف مع التيار؟!
ولعل من نكد الأوضاع أن بعض هؤلاء يتصور أنه يملك قوة هائلة لمحاسبة الناس ولكنه يمنع الناس من أن يحاسبوه. ومن النكد أنه يظن بأحقيته في انتقاد الآخرين دون أن يسمح لأحد أن ينقده..
إني أقولها بصراحة - وأنا أعتقد أنها ستجلب لي متاعب لا أول لها ولا آخر.. إن ساحة إنتاج قيادات الرأي الديني بحاجة إلى فرز و تطهير كبير. لقد كان الابتعاد عن الدين شر مستطير.. هذا صحيح.. وكان التكسب باسم الدين كارثة، وهذا صحيح أيضاً.. ولكن الدعاة إلى الدين كارثة أخرى اليوم.. ويجب الاعتراف بأن عليهم مسئولية كبرى في كل الذي صارت إليه الأحوال، ومثلما يتنادون اليوم، ويصرخون في الآخرين، للتطهير وتدارك الأخطاء عليهم هم أيضاً أن يتنادوا إلى التطهير وتصويب الأخطاء والكف عن الغلط.. تصحيح أخطاءهم أنفسهم قبل أخطاء الآخرين. فالضجة المثارة على نصوص قاسم حداد آفتها من الفهم السقيم.. ولا شيء أكثر!
لقد قالوا بأن قاسم حداد أباح الزنا. وأمعنوا في دعواهم فزعموا أنه شجع على ترك الصلاة.. وجاء أمثلهم طريقة فقال: أشرك بالله وأهان الأنبياء. وكان أن خرجت في الجامعة مسيرة الطلبة المحتقنة: ''يا من سميتم شعراء.. الإسلام منكم براء.. ملعون يا ربيع الغوى والفجور ملعون''..
لقد كنت واحداً من الناس الذين يتصورون أن قاسم حداد كان ومايزال - مثله مثل طرفة بن العبد - مهضوم الحق على هذه الأرض.. فما كان أحرانا أن نحتفي بشاعريته التي وضعتنا على خريطة الإبداع الشعري العالمي في غير محفل من المحافل. وما كان أجدر أنا أن نباهي الأمم قائلين ''.. وعندنا قاسم حداد''. ترى هل يعرف هؤلاء اللذين تولوا كبر هذه التخليطات حقيقة ما قاموا به ومداه.. وآثاره؟
أجد السؤال الخطير يفرض نفسه تلقائياً: ما مبلغ علم الذين يتحدثون باسم العلم الشرعي دون مساءلة؟ هل لديهم في سيرهم العلمية معارفهم الأساسية ما يؤهلهم للفتيا؟
إن من الاشتراطات التي اتفق عليها المتقدمون، فيمن يتأهل للتصدر بين الناس مفتياً في دين الله: العلم باللغة العربية، ولا عجب في ذلك لأن سلامة ومعرفة أسالبيها مطلوبان لسلامة الفهم، فعبر اللغة تستنبط أدلة الأحكام، غير أن ذلك شرط معدوم في أغلب من خاطوا وباطوا بمحاكمة ربيع الثقافة و''أخبار مجنون ليلى''.. العلم بالعربية يشمل معرفة الأساليب وتاريخها،.. ومستويات اللغة، وطرق الدلالة في كل مستوى، وأنماط انتقال المعنى من مستوى إلى آخر.. والتراث الفكري جميعه إنما يدور على نشاط اللغة في ذلك.. هناك حقيقة وهناك مجاز.. الحقيقة استعمال شائع مألوف للفظ فيما وضع له، والمجاز عدول عن ذلك المألوف الشائع.. استخدام للفظ في غير المعنى الموضوع له في أصل اللغة.. والأدب يشتغل على المجاز، لذا يجب التفريق بين استخدامين للغة: استخدام التواصل العام واستخدام الفن.. ولا غرو بأن أي عاقل، له حظ قليل من الثقافة، يعرف أن لغة الكلام العادي مهمتها تواصلية، تتم بالمصطلحات والمدلولات الحرفية المعروفة التي اصطلح عيها المجتمع.. أما الأديب فيتحرر من ذلك.. ويتوسع.. ويصوغ الأخيلة.. ويخرج عن الإطار العام الذي يعبر من خلاله الآخرون.. فهو يعتمد على علاقات وتراكيب ودلالات لغوية جديدة..
قاسم حداد لم يفعل أكثر من هذا! لقد نقل اللفظ من معناه الأصلي إلى معنى غيره، مع وجود قرينة مانعه من إرادة المعنى الأصلي، هي أنه يسبك عبارته في إطار الشعر لا في إطار الفقه والفتوى.
وإذا كان سماحة عيسى قاسم أو فضيلة عادل المعاودة أو غيرهما قد فهم إن الاستشهاد التالي هو فتوى فقهية فالغلط في هذه الحالة ليس غلط الشاعر بالتأكيد:
''يُروى أن قيساً كان يختلف إلى فقيه يقال له.. كلام بن وحش يستفتيه في ما يأخذ الناس عليه. فعندما كثرت الأقاويل على صلته بليلى، وقف على ''كلام'' واستفتاه في ما يزعمون بأن علاقتهما ضرب من الزنا، فقال له ''الزنا هو بذل جسدك لمن لا تحب، أما إذا العشق حصل والشوق اتصل فلا زنا فيما قدر الله''. وقيل إن ''كلاماً'' مال على قيس وأسر له ''يا بنيّ، اعشق ما تيسر لك وتمتع بما تسنى ولا تطفئ جذوة العشق بالعرس ما استطعت'' قيل فلم يفعل المجنون غير ذلك''.
في المباحث التي يعقدها القدماء للتدليل على أهمية أن تكون الإحاطة باللغة العربية من مشمولات معارف الفقيه يذكرون جهات يدخل الاعتراض على المفتي من جهتها، وأول ذلك: أن يراعي ما يقتضيه ظاهر العبارة ولا يراعي انتقال الكلام إلى مستوى يتجاوز الظاهر، وكثير ما تزل الأقدام بسبب ذلك. وأحسب ان ذلك مما زلت به أقدام بعض من حاولوا أن يشنعوا على قاسم حداد بقراءة سقيمة فيما أورده نصه المذكور هنا. فالمطلع على ''تاريخ الأساليب'' في فنون العربية يدرك أن هناك ظاهرة طريفة عرفها الأدب العربي منذ البواكير وتقبلتها مدونات العربية وآدابها، وتعايش معها فقهاء اللغة، وفقهاء الشرع، وأرباب البلاغة، وأغضى عنها حتى أشد الناس تزمتاً، وتجهماً، وضيق أفق، وتتمثل هذه الظاهرة في نهج الشعراء نهجاً فنياً يقوم على محاكاة العشق للدين، محاكاة استعارية يغيب فيها الدين وتبقى متعلقاته حاضرة في العشق، ويمثل الدين، وطقوسه، ومفرداته، نموذجاً يحاكيه العاشق ويستعير رموزه، ودواله، وعوالمه. فالعشق دين، والعاشق عابد متبتل، وأفعاله التي يتقرب بها للمعشوق تشابه الطقوس الدينية، يحرم للحج فيلبي بإسمها ويتوجه للصلاة فتكون قبلته، وتزهق روحه من أثر الجوى، فيكون شهيداً للحب.. إلخ. مثل هذا التقليد شائع دارج، وكتب التراث طافحة بذلك جداً، سواء كتب الأدب من أمثال ''الأغاني''، و''مصارع العشاق''، و''طوق الحمامة''، و''الزهرة''، و''الظرف والظرفاء''، أو كتب ودواوين الحب الصوفي كديوان أبن الفارض، وديوان أبي الحسن الششتري، ''وخمرة الحان''، و''ترجمان الأشواق'' وغيرها.
وداخل هذا التقليد الشعري المتبع وجد ما اصطلح عليه، في الكتب التي تتتبع تاريخ الأساليب ب''فقه العشق''، وهو ليس فقه جاء يدخل في أبواب الكتب الفقهية بل هو شيء من قبيل لهو الشعراء بالجمع بين هذين الأمرين المتباينين: الفقه والعشق، يتساءلون فيه عن الأحكام الافتراضية المتخيلة المرتبطة بالعشق، والموت عشقا، وحكم مقتول العشق، وديته، وثواب العشق والصبر على تحمله.
وهذا كله مستخلص من التصورات التي تجعل العشق، لون من ألوان الابتلاء التي يتعرض لها الإنسان في الدنيا، هكذا يقول ابن الرومي:
أيها العاشق المعذب أصبر
فخطيات ذي الهوى مغفورة
زفرة في الهوى أحط لذنبٍ
من غزاة وحجة مبرورة
وفي إطار هذا اللون من الأساليب قد يعمد بعض الشعراء إلى قلب منطق الإثابة فيعتبرون المتعة بالعشق نفسها منتجة للثواب، يقول الجمّاش:
إذا قبّل الإنسانَ إنسانُ يشتهي فإن زاد زاد اللهُ في حسناته | | ثناياه لم يأثم وكان له أجرا مثاقيلَ يمحو اللهُ عنه بها وزرا |
لقد عمد قاسم حداد إلى باب معروف ضمن بنود هذا الفن الذي يلابس العشق بالدين هو ما اصطلح عليه ب''الفتاوى العشقية''، وهو ليس أول من ألف فيه، بل هو مسلك معروف، درج فيه الشعراء، وحالت معرفة الفقهاء ودعاة الدين، المحيطة بأفانين المجاز في اللغة العربية، دون الإنكار عليهم.
فمثلما فعل قاسم حداد في النص الذي دار بين قيس و''كلام بن وحش'' تصور لنا الأخبار لقاءات بين شعراء عاشقين وفقهاء يجيبون السائلين عن أمور دينهم، وقد عقد أبو الحسن علي بن محمد الديلمي فصلا بعنوان ''الفصل الأول في مقالة التابعين، ومن تبع من الفقهاء وأهل الدين في صفة المحبة والمحبين'' من كتابه ''عطف الألف المألوف على اللام المعطوف'' ذكر فيه شتى القصص التي زعم الرواة أن العشاق رفعوها إلى الصحابة والتابعين والفقهاء. وعن طريق الحوار بين العاشق والمستفتي تحلم النصوص الشعرية بالمصالحة بين المتعة والقانون.
وأساس الإباحة في هذه الفتاوى ''الشعرية'' هو اعتبار العشق أمرا خارجا عن مستطاع الإنسان، أو كما جاء في نص أخبار المجنون ''إذا العشق حصل والشوق اتصل فلا زنا فيما قدر الله''.
هذه إجابة أحد فقهاء المدينة السبعة، سعيد بن المسيب، في حكاية من هذه الحكايات التي عرفتها أساليب الشعر كما جاءت على لسان ابن مرجانة:
سألت سعيد بن المسيب مفتي ال
مدينة هل في حب دهماء من وزرِ؟
فقال سعيدُ بن المسيبِ: إنما
تلامُ على ما تستطيع من الأمرِ
وقد نفى ابن المسيب ذلك اللقاء وقال ''والله ما سألني إنسان عن هذا ولو سألني لأجبت، وهذا يدل على أن الشاعر هو الذي يستنبط اللقاء بالفقيه، ويخضعه إلى أحكام الشعر والهوى، بحيث أن المستفتى يكون شخصية شعرية غير الشخص التاريخي لاسيما أن نص فتواه يصاغ شعرا.
وتذكر بعض الأخبار أن امرأة جاءت إلى الإمام الشافعي ومعها رقعة فناولتها الشافعي وفيها:
سل المفتي المكي هل في تزاورٍ
وضمةِ معشوقِ الفؤادِ جناحُ
فكتب تحتها:
أقول معاذ الله أن يُذهب التقى
تلاصقُ أكباد بهن جراحُ
ومثال ذلك ''رقعة'' رفعت إلى الشافعي أيضا وفيها:
ألا فسأل المكي ذا العلمِ ما الذي
يحلُ من التقبيل في رمضانِ؟
فأجاب عنها:
يقول لك المكي: إما لزوجةٍ
فسبعٌ، وأما خُلةٌ فثمانِ
وتصور الأخبار لقاء بين الإمام مالك بن أنس ورجل دخل عليه وأنشده:
سلوا مالك المفتي عن اللهو والصبى
وحب الحسان المغنجات الفواركِ
يخبركم أني مصيبٌ، وانما
أسلي هموم النفس عني بذلكِ
فهل في محب يكتم الحب والهوى
إثامٌ، وهل في ضمة المتهالكِ؟
فسُرّي عن مالك، وقال: لا إن شاء الله.
وفي كل تلك الأخبار لم يرد أن محكمة عقدت، أو ان أحداً من الفقهاء قد حمل هذه الأفانين الأسلوبية من المجاز محمل الجد بحيث حاسب قائلها أو خطب في الناس بالنكير عليه!
ولم يكتف أبو نواس بالحوار بين عاشق وفقيه بل طالت محاكاته طريقة المحدثين في إيراد الأدلة. فقد أقبل يوما إلى مجلس عبدالواحد بن زياد بالبصرة، وقد كثر عليه أصحاب الحديث. فقال: ليسأل كل رجل عن ثلاثة أحاديث وليمض، ففعل الناس ذلك، حتى انتهى إلى أبي نواس، فقال: يا غلام، سل أنت، فقعد بين يديه وقال: هاك الحديث، فقال هات، فأنشد:
ولقد كنا روينا
عن سعيدٍ عن قتاده
عن زُرارة بن أوفى
أن سعد بن عباده
قال: من ناك حبيبا
فاز منه بالسعادة
وإذا مات محباً
فله أجر الشهادة
نيةُ العاشق، فأعلم
هي خيرٌ من عبادة
قد روى ذاك صوابا
وأتانٌ عن جناده
فقال له عبدالواحد: قم، عليك ما عليك، والله لا أحدثك حديثا وأنا أعرف وجهك، فقام أبو نواس وقال: والله لا أتيت مجلسك وأنت ترد الصحيح من الأحاديث''!
وعلى تكاثر الشواهد والأخبار، التي لو أوردنا المزيد منها لطال بنا المقام، فإننا لم نسمع على امتداد القرون أن أحدا من أفراد السلطة التشريعية، في هذا الصقع أو ذاك من أصقاع الخلافة الإسلامية، قد عقد لجنة تحقيق، أو طالب بمحاسبة الشعراء، أو سخر المنابر للدعاء بالويل والثبور. لقد كان لهم من أصالة السليقة اللغوية وتشرب أساليب التعبير ومعرفة البلاغة وأفانين تصريف القول ما يحميهم من الوقوع فيما وقع فيه بعض المتحمسين المتعجلين ممن لو سألته عن الفرق بين الاستعارة والمجاز المرسل لحار جوابا، ثم هو بعد ذلك يفتي ويدين الآخرين ولا يطرف له جفن فإلى الله المشتكى.
وللحديث صلة
الوطن- 16 ابريل 2007