سأقول عن قاسم وعن‮ "‬ربيع الثقافة‮" ‬المستباح‮ :‬
نحروا المجاز‮.. ‬وافتأتوا على اللغة‮.. ‬وجاءوا على قميصه بدمٍ‮ ‬كذب

محمد أحمد البنكي
(البحرين)

الذين‮ ‬يجهدون أنفسهم اليوم بالتفتيش عن نصوص قاسم حداد،‮ ‬ويجهدون عيونهم بالتدقيق بين سطورها،‮ ‬ويجهدون عقول الناس لإخضاعها للتفسير الذي‮ ‬استنتجوه‮ ‬يبدون كأنهم حاطبو ليل‮.. ‬يشعلون نيرانهم في‮ ‬الأخضر واليابس ولا‮ ‬يريدون أن‮ ‬يفهموا أن دخان العطب قد زكم الأنوف حتى النخاع‮!‬

إن وضع هؤلاء المفتشين المحققين تحت مجهر النقد،‮ ‬خصوصاً‮ ‬في‮ ‬هذه الظروف،‮ ‬ديناميت‮.. ‬ذلك أن بعض الحق في‮ ‬الموضوع قد لا‮ ‬يعجب من‮ ‬يطلق عليهم‮ ''‬مشايخ‮''‬،‮ ‬كما أن بعضه الآخر قد لا‮ ‬يعجب من‮ ‬يطلق عليهم‮ ''‬نواب‮''‬،‮ ‬ولكن لابد مما ليس منه بد،‮ ‬ذلك أن واقع خلط الأوراق الآن‮ ‬يفرض على الجميع التعامل مع الديناميت ومحاولة إبطال مفعوله‮.‬

الذين‮ ‬يجهدون أنفسهم اليوم بالتفتيش عن نصوص قاسم حداد،‮ ‬ويجهدون عيونهم بالتدقيق بين سطورها،‮ ‬ويجهدون عقول الناس لإخضاعها للتفسير الذي‮ ‬استنتجوه‮ ‬يبدون كأنهم حاطبو ليل‮.. ‬يشعلون نيرانهم في‮ ‬الأخضر واليابس ولا‮ ‬يريدون أن‮ ‬يفهموا أن دخان العطب قد زكم الأنوف حتى النخاع‮!‬

إن وضع هؤلاء المفتشين المحققين تحت مجهر النقد،‮ ‬خصوصاً‮ ‬في‮ ‬هذه الظروف،‮ ‬ديناميت‮.. ‬ذلك أن بعض الحق في‮ ‬الموضوع قد لا‮ ‬يعجب من‮ ‬يطلق عليهم‮ ''‬مشايخ‮''‬،‮ ‬كما أن بعضه الآخر قد لا‮ ‬يعجب من‮ ‬يطلق عليهم‮ ''‬نواب‮''‬،‮ ‬ولكن لابد مما ليس منه بد،‮ ‬ذلك أن واقع خلط الأوراق الآن‮ ‬يفرض على الجميع التعامل مع الديناميت ومحاولة إبطال مفعوله‮.‬
دعوني‮ ‬أشرح وجهة نظري،‮ ‬وأنا أحب أن أكون صريحاً‮ ‬إلى أبعد الحدود‮.. ‬فبعض الناس الذين بيننا‮ ‬يقومون بدور‮ ‬غريب عجيب‮.. ‬بعضهم أتاح لنفسه أن‮ ‬يفتي‮ ‬ويوجه أصابع الاتهام ذات اليمين وذات الشمال بينما هو لا‮ ‬يمتلك أدنى مواصفات المفتي‮.. ‬وبعض آخر رأى في‮ ‬نفسه ناقداً‮ ‬هماماً‮ ‬فراح‮ ‬يحدد لنا مستوى الأعمال الفنية،‮ ‬وأوجه القبح والجمال،‮ ‬دون أن‮ ‬يتوفر على بضاعة تسمح له بذلك‮.. ‬وبعض آخر فتح الباب على مصراعيه للسب واللعن والولاء والبراء،‮ ‬فمضى‮ ‬يتبرأ من قاسم حداد،‮ ‬ويلعن ربيع‮ ''‬الفجور‮''. ‬ولا ندرى كيف سيتوقف هذا الانجراف مع التيار؟‮!‬

ولعل من نكد الأوضاع أن بعض هؤلاء‮ ‬يتصور أنه‮ ‬يملك قوة هائلة لمحاسبة الناس ولكنه‮ ‬يمنع الناس من أن‮ ‬يحاسبوه‮. ‬ومن النكد أنه‮ ‬يظن بأحقيته في‮ ‬انتقاد الآخرين دون أن‮ ‬يسمح لأحد أن‮ ‬ينقده‮..‬

إني‮ ‬أقولها بصراحة‮ ‬‭-‬‮ ‬وأنا أعتقد أنها ستجلب لي‮ ‬متاعب لا أول لها ولا آخر‮.. ‬إن ساحة إنتاج قيادات الرأي‮ ‬الديني‮ ‬بحاجة إلى فرز و تطهير كبير‮. ‬لقد كان الابتعاد عن الدين شر مستطير‮.. ‬هذا صحيح‮.. ‬وكان التكسب باسم الدين كارثة،‮ ‬وهذا صحيح أيضاً‮.. ‬ولكن الدعاة إلى الدين كارثة أخرى اليوم‮.. ‬ويجب الاعتراف بأن عليهم مسئولية كبرى في‮ ‬كل الذي‮ ‬صارت إليه الأحوال،‮ ‬ومثلما‮ ‬يتنادون اليوم،‮ ‬ويصرخون في‮ ‬الآخرين،‮ ‬للتطهير وتدارك الأخطاء عليهم هم أيضاً‮ ‬أن‮ ‬يتنادوا إلى التطهير وتصويب الأخطاء والكف عن الغلط‮.. ‬تصحيح أخطاءهم أنفسهم قبل أخطاء الآخرين‮. ‬فالضجة المثارة على نصوص قاسم حداد آفتها من الفهم السقيم‮.. ‬ولا شيء أكثر‮! ‬
لقد قالوا بأن قاسم حداد أباح الزنا‮. ‬وأمعنوا في‮ ‬دعواهم فزعموا أنه شجع على ترك الصلاة‮.. ‬وجاء أمثلهم طريقة فقال‮: ‬أشرك بالله وأهان الأنبياء‮. ‬وكان أن خرجت في‮ ‬الجامعة مسيرة الطلبة المحتقنة‮: ''‬يا من سميتم شعراء‮.. ‬الإسلام منكم براء‮.. ‬ملعون‮ ‬يا ربيع الغوى والفجور ملعون‮''..‬

لقد كنت واحداً‮ ‬من الناس الذين‮ ‬يتصورون أن قاسم حداد كان ومايزال‮ ‬‭-‬‮ ‬مثله مثل طرفة بن العبد‮ ‬‭-‬‮ ‬مهضوم الحق على هذه الأرض‮.. ‬فما كان أحرانا أن نحتفي‮ ‬بشاعريته التي‮ ‬وضعتنا على خريطة الإبداع الشعري‮ ‬العالمي‮ ‬في‮ ‬غير محفل من المحافل‮. ‬وما كان أجدر أنا أن نباهي‮ ‬الأمم قائلين‮ ''.. ‬وعندنا قاسم حداد‮''. ‬ترى هل‮ ‬يعرف هؤلاء اللذين تولوا كبر هذه التخليطات حقيقة ما قاموا به ومداه‮.. ‬وآثاره؟

أجد السؤال الخطير‮ ‬يفرض نفسه تلقائياً‮: ‬ما مبلغ‮ ‬علم الذين‮ ‬يتحدثون باسم العلم الشرعي‮ ‬دون مساءلة؟ هل لديهم في‮ ‬سيرهم العلمية معارفهم الأساسية ما‮ ‬يؤهلهم للفتيا؟

إن من الاشتراطات التي‮ ‬اتفق عليها المتقدمون،‮ ‬فيمن‮ ‬يتأهل للتصدر بين الناس مفتياً‮ ‬في‮ ‬دين الله‮: ‬العلم باللغة العربية،‮ ‬ولا عجب في‮ ‬ذلك لأن سلامة ومعرفة أسالبيها مطلوبان لسلامة الفهم،‮ ‬فعبر اللغة تستنبط أدلة الأحكام،‮ ‬غير أن ذلك شرط معدوم في‮ ‬أغلب من خاطوا وباطوا بمحاكمة ربيع الثقافة و‮''‬أخبار مجنون ليلى‮''.. ‬العلم بالعربية‮ ‬يشمل معرفة الأساليب وتاريخها،‮.. ‬ومستويات اللغة،‮ ‬وطرق الدلالة في‮ ‬كل مستوى،‮ ‬وأنماط انتقال المعنى من مستوى إلى آخر‮.. ‬والتراث الفكري‮ ‬جميعه إنما‮ ‬يدور على نشاط اللغة في‮ ‬ذلك‮.. ‬هناك حقيقة وهناك مجاز‮.. ‬الحقيقة استعمال شائع مألوف للفظ فيما وضع له،‮ ‬والمجاز عدول عن ذلك المألوف الشائع‮.. ‬استخدام للفظ في‮ ‬غير المعنى الموضوع له في‮ ‬أصل اللغة‮.. ‬والأدب‮ ‬يشتغل على المجاز،‮ ‬لذا‮ ‬يجب التفريق بين استخدامين للغة‮: ‬استخدام التواصل العام واستخدام الفن‮.. ‬ولا‮ ‬غرو بأن أي‮ ‬عاقل،‮ ‬له حظ قليل من الثقافة،‮ ‬يعرف أن لغة الكلام العادي‮ ‬مهمتها تواصلية،‮ ‬تتم بالمصطلحات والمدلولات الحرفية المعروفة التي‮ ‬اصطلح عيها المجتمع‮.. ‬أما الأديب فيتحرر من ذلك‮.. ‬ويتوسع‮.. ‬ويصوغ‮ ‬الأخيلة‮.. ‬ويخرج عن الإطار العام الذي‮ ‬يعبر من خلاله الآخرون‮.. ‬فهو‮ ‬يعتمد على علاقات وتراكيب ودلالات لغوية جديدة‮..‬

قاسم حداد لم‮ ‬يفعل أكثر من هذا‮! ‬لقد نقل اللفظ من معناه الأصلي‮ ‬إلى معنى‮ ‬غيره،‮ ‬مع وجود قرينة مانعه من إرادة المعنى الأصلي،‮ ‬هي‮ ‬أنه‮ ‬يسبك عبارته في‮ ‬إطار الشعر لا في‮ ‬إطار الفقه والفتوى‮.‬

وإذا كان سماحة عيسى قاسم أو فضيلة عادل المعاودة أو‮ ‬غيرهما قد فهم إن الاستشهاد التالي‮ ‬هو فتوى فقهية فالغلط في‮ ‬هذه الحالة ليس‮ ‬غلط الشاعر بالتأكيد‮:‬
‮''‬يُروى أن قيساً‮ ‬كان‮ ‬يختلف إلى فقيه‮ ‬يقال له‮.. ‬كلام بن وحش‮ ‬يستفتيه في‮ ‬ما‮ ‬يأخذ الناس عليه‮. ‬فعندما كثرت الأقاويل على صلته بليلى،‮ ‬وقف على‮ ''‬كلام‮'' ‬واستفتاه في‮ ‬ما‮ ‬يزعمون بأن علاقتهما ضرب من الزنا،‮ ‬فقال له‮ ''‬الزنا هو بذل جسدك لمن لا تحب،‮ ‬أما إذا العشق حصل والشوق اتصل فلا زنا فيما قدر الله‮''. ‬وقيل إن‮ ''‬كلاماً‮'' ‬مال على قيس وأسر له‮ ''‬يا بنيّ،‮ ‬اعشق ما تيسر لك وتمتع بما تسنى ولا تطفئ جذوة العشق بالعرس ما استطعت‮'' ‬قيل فلم‮ ‬يفعل المجنون‮ ‬غير ذلك‮''.‬

في‮ ‬المباحث التي‮ ‬يعقدها القدماء للتدليل على أهمية أن تكون الإحاطة باللغة العربية من مشمولات معارف الفقيه‮ ‬يذكرون جهات‮ ‬يدخل الاعتراض على المفتي‮ ‬من جهتها،‮ ‬وأول ذلك‮: ‬أن‮ ‬يراعي‮ ‬ما‮ ‬يقتضيه ظاهر العبارة ولا‮ ‬يراعي‮ ‬انتقال الكلام إلى مستوى‮ ‬يتجاوز الظاهر،‮ ‬وكثير ما تزل الأقدام بسبب ذلك‮. ‬وأحسب ان ذلك مما زلت به أقدام بعض من حاولوا أن‮ ‬يشنعوا على قاسم حداد بقراءة سقيمة فيما أورده نصه المذكور هنا‮. ‬فالمطلع على‮ ''‬تاريخ الأساليب‮'' ‬في‮ ‬فنون العربية‮ ‬يدرك أن هناك ظاهرة طريفة عرفها الأدب العربي‮ ‬منذ البواكير وتقبلتها مدونات العربية وآدابها،‮ ‬وتعايش معها فقهاء اللغة،‮ ‬وفقهاء الشرع،‮ ‬وأرباب البلاغة،‮ ‬وأغضى عنها حتى أشد الناس تزمتاً،‮ ‬وتجهماً،‮ ‬وضيق أفق،‮ ‬وتتمثل هذه الظاهرة في‮ ‬نهج الشعراء نهجاً‮ ‬فنياً‮ ‬يقوم على محاكاة العشق للدين،‮ ‬محاكاة استعارية‮ ‬يغيب فيها الدين وتبقى متعلقاته حاضرة في‮ ‬العشق،‮ ‬ويمثل الدين،‮ ‬وطقوسه،‮ ‬ومفرداته،‮ ‬نموذجاً‮ ‬يحاكيه العاشق ويستعير رموزه،‮ ‬ودواله،‮ ‬وعوالمه‮. ‬فالعشق دين،‮ ‬والعاشق عابد متبتل،‮ ‬وأفعاله التي‮ ‬يتقرب بها للمعشوق تشابه الطقوس الدينية،‮ ‬يحرم للحج فيلبي‮ ‬بإسمها ويتوجه للصلاة فتكون قبلته،‮ ‬وتزهق روحه من أثر الجوى،‮ ‬فيكون شهيداً‮ ‬للحب‮.. ‬إلخ‮. ‬مثل هذا التقليد شائع دارج،‮ ‬وكتب التراث طافحة بذلك جداً،‮ ‬سواء كتب الأدب من أمثال‮ ''‬الأغاني‮''‬،‮ ‬و‮''‬مصارع العشاق‮''‬،‮ ‬و‮''‬طوق الحمامة‮''‬،‮ ‬و‮''‬الزهرة‮''‬،‮ ‬و‮''‬الظرف والظرفاء‮''‬،‮ ‬أو كتب ودواوين الحب الصوفي‮ ‬كديوان أبن الفارض،‮ ‬وديوان أبي‮ ‬الحسن الششتري،‮ ''‬وخمرة الحان‮''‬،‮ ‬و‮''‬ترجمان الأشواق‮'' ‬وغيرها‮.‬
وداخل هذا التقليد الشعري‮ ‬المتبع وجد ما اصطلح عليه،‮ ‬في‮ ‬الكتب التي‮ ‬تتتبع تاريخ الأساليب ب‮''‬فقه العشق‮''‬،‮ ‬وهو ليس فقه جاء‮ ‬يدخل في‮ ‬أبواب الكتب الفقهية بل هو شيء من قبيل لهو الشعراء بالجمع بين هذين الأمرين المتباينين‮: ‬الفقه والعشق،‮ ‬يتساءلون فيه عن الأحكام الافتراضية المتخيلة المرتبطة بالعشق،‮ ‬والموت عشقا،‮ ‬وحكم مقتول العشق،‮ ‬وديته،‮ ‬وثواب العشق والصبر على تحمله‮.‬
وهذا كله مستخلص من التصورات التي‮ ‬تجعل العشق،‮ ‬لون من ألوان الابتلاء التي‮ ‬يتعرض لها الإنسان في‮ ‬الدنيا،‮ ‬هكذا‮ ‬يقول ابن الرومي‮:‬

أيها العاشق المعذب أصبر‮ ‬
فخطيات ذي‮ ‬الهوى مغفورة
زفرة في‮ ‬الهوى أحط لذنبٍ‮ ‬
من‮ ‬غزاة وحجة مبرورة

وفي‮ ‬إطار هذا اللون من الأساليب قد‮ ‬يعمد بعض الشعراء إلى قلب منطق الإثابة فيعتبرون المتعة بالعشق نفسها منتجة للثواب،‮ ‬يقول الجمّاش‮:‬

إذا قبّل الإنسانَ‮ ‬إنسانُ‮ ‬يشتهي 
فإن زاد زاد اللهُ‮ ‬في‮ ‬حسناته
  ثناياه لم‮ ‬يأثم وكان له أجرا
‬مثاقيلَ‮ ‬يمحو اللهُ‮ ‬عنه بها وزرا

لقد عمد قاسم حداد إلى باب معروف ضمن بنود هذا الفن الذي‮ ‬يلابس العشق بالدين هو ما اصطلح عليه ب‮''‬الفتاوى العشقية‮''‬،‮ ‬وهو ليس أول من ألف فيه،‮ ‬بل هو مسلك معروف،‮ ‬درج فيه الشعراء،‮ ‬وحالت معرفة الفقهاء ودعاة الدين،‮ ‬المحيطة بأفانين المجاز في‮ ‬اللغة العربية،‮ ‬دون الإنكار عليهم‮.‬

فمثلما فعل قاسم حداد في‮ ‬النص الذي‮ ‬دار بين قيس و‮''‬كلام بن وحش‮'' ‬تصور لنا الأخبار لقاءات بين شعراء عاشقين وفقهاء‮ ‬يجيبون السائلين عن أمور دينهم،‮ ‬وقد عقد أبو الحسن علي‮ ‬بن محمد الديلمي‮ ‬فصلا بعنوان‮ ''‬الفصل الأول في‮ ‬مقالة التابعين،‮ ‬ومن تبع من الفقهاء وأهل الدين في‮ ‬صفة المحبة والمحبين‮'' ‬من كتابه‮ ''‬عطف الألف المألوف على اللام المعطوف‮'' ‬ذكر فيه شتى القصص التي‮ ‬زعم الرواة أن العشاق رفعوها إلى الصحابة والتابعين والفقهاء‮. ‬وعن طريق الحوار بين العاشق والمستفتي‮ ‬تحلم النصوص الشعرية بالمصالحة بين المتعة والقانون‮.‬

وأساس الإباحة في‮ ‬هذه الفتاوى‮ ''‬الشعرية‮'' ‬هو اعتبار العشق أمرا خارجا عن مستطاع الإنسان،‮ ‬أو كما جاء في‮ ‬نص أخبار المجنون‮ ''‬إذا العشق حصل والشوق اتصل فلا زنا فيما قدر الله‮''.‬
هذه إجابة أحد فقهاء المدينة السبعة،‮ ‬سعيد بن المسيب،‮ ‬في‮ ‬حكاية من هذه الحكايات التي‮ ‬عرفتها أساليب الشعر كما جاءت على لسان ابن مرجانة‮:‬

سألت سعيد بن المسيب مفتي‮ ‬ال‮ ‬
مدينة هل في‮ ‬حب دهماء من وزرِ؟
فقال سعيدُ‮ ‬بن المسيبِ‮: ‬إنما‮ ‬
تلامُ‮ ‬على ما تستطيع من الأمرِ

وقد نفى ابن المسيب ذلك اللقاء وقال‮ ''‬والله ما سألني‮ ‬إنسان عن هذا ولو سألني‮ ‬لأجبت،‮ ‬وهذا‮ ‬يدل على أن الشاعر هو الذي‮ ‬يستنبط اللقاء بالفقيه،‮ ‬ويخضعه إلى أحكام الشعر والهوى،‮ ‬بحيث أن المستفتى‮ ‬يكون شخصية شعرية‮ ‬غير الشخص التاريخي‮ ‬لاسيما أن نص فتواه‮ ‬يصاغ‮ ‬شعرا‮.‬
وتذكر بعض الأخبار أن امرأة جاءت إلى الإمام الشافعي‮ ‬ومعها رقعة فناولتها الشافعي‮ ‬وفيها‮:‬

سل المفتي‮ ‬المكي‮ ‬هل في‮ ‬تزاورٍ‮ ‬
وضمةِ‮ ‬معشوقِ‮ ‬الفؤادِ‮ ‬جناحُ

فكتب تحتها‮:‬

أقول معاذ الله أن‮ ‬يُذهب التقى
تلاصقُ‮ ‬أكباد بهن جراحُ
ومثال ذلك‮ ''‬رقعة‮'' ‬رفعت إلى الشافعي‮ ‬أيضا وفيها‮:‬
ألا فسأل المكي‮ ‬ذا العلمِ‮ ‬ما الذي
يحلُ‮ ‬من التقبيل في‮ ‬رمضانِ؟

فأجاب عنها‮:‬

يقول لك المكي‮: ‬إما لزوجةٍ‮ ‬
فسبعٌ،‮ ‬وأما خُلةٌ‮ ‬فثمانِ

وتصور الأخبار لقاء بين الإمام مالك بن أنس ورجل دخل عليه وأنشده‮:‬

سلوا مالك المفتي‮ ‬عن اللهو والصبى
وحب الحسان المغنجات الفواركِ
يخبركم أني‮ ‬مصيبٌ،‮ ‬وانما‮ ‬
أسلي‮ ‬هموم النفس عني‮ ‬بذلكِ
فهل في‮ ‬محب‮ ‬يكتم الحب والهوى
إثامٌ،‮ ‬وهل في‮ ‬ضمة المتهالكِ؟
فسُرّي‮ ‬عن مالك،‮ ‬وقال‮: ‬لا إن شاء الله‮.‬

وفي‮ ‬كل تلك الأخبار لم‮ ‬يرد أن محكمة عقدت،‮ ‬أو ان أحداً‮ ‬من الفقهاء قد حمل هذه الأفانين الأسلوبية من المجاز محمل الجد بحيث حاسب قائلها أو خطب في‮ ‬الناس بالنكير عليه‮!‬
ولم‮ ‬يكتف أبو نواس بالحوار بين عاشق وفقيه بل طالت محاكاته طريقة المحدثين في‮ ‬إيراد الأدلة‮. ‬فقد أقبل‮ ‬يوما إلى مجلس عبدالواحد بن زياد بالبصرة،‮ ‬وقد كثر عليه أصحاب الحديث‮. ‬فقال‮: ‬ليسأل كل رجل عن ثلاثة أحاديث وليمض،‮ ‬ففعل الناس ذلك،‮ ‬حتى انتهى إلى أبي‮ ‬نواس،‮ ‬فقال‮: ‬يا‮ ‬غلام،‮ ‬سل أنت،‮ ‬فقعد بين‮ ‬يديه وقال‮: ‬هاك الحديث،‮ ‬فقال هات،‮ ‬فأنشد‮:‬

ولقد كنا روينا‮ ‬
    ‬عن سعيدٍ‮ ‬عن قتاده
عن زُرارة بن أوفى‮ ‬
    ‮‬أن سعد بن عباده
قال‮: ‬من ناك حبيبا‮ ‬
    ‮‬فاز منه بالسعادة
وإذا مات محباً‮ ‬
    فله أجر الشهادة
نيةُ‮ ‬العاشق،‮ ‬فأعلم
    هي‮ ‬خيرٌ‮ ‬من عبادة
قد روى ذاك صوابا
    وأتانٌ‮ ‬عن جناده

فقال له عبدالواحد‮: ‬قم،‮ ‬عليك ما عليك،‮ ‬والله لا أحدثك حديثا وأنا أعرف وجهك،‮ ‬فقام أبو نواس وقال‮: ‬والله لا أتيت مجلسك وأنت ترد الصحيح من الأحاديث‮''!‬

وعلى تكاثر الشواهد والأخبار،‮ ‬التي‮ ‬لو أوردنا المزيد منها لطال بنا المقام،‮ ‬فإننا لم نسمع على امتداد القرون أن أحدا من أفراد السلطة التشريعية،‮ ‬في‮ ‬هذا الصقع أو ذاك من أصقاع الخلافة الإسلامية،‮ ‬قد عقد لجنة تحقيق،‮ ‬أو طالب بمحاسبة الشعراء،‮ ‬أو سخر المنابر للدعاء بالويل والثبور‮. ‬لقد كان لهم من أصالة السليقة اللغوية وتشرب أساليب التعبير ومعرفة البلاغة وأفانين تصريف القول ما‮ ‬يحميهم من الوقوع فيما وقع فيه بعض المتحمسين المتعجلين ممن لو سألته عن الفرق بين الاستعارة والمجاز المرسل لحار جوابا،‮ ‬ثم هو بعد ذلك‮ ‬يفتي‮ ‬ويدين الآخرين ولا‮ ‬يطرف له جفن فإلى الله المشتكى‮. ‬
وللحديث صلة

الوطن- 16 ابريل 2007

أقرأ أيضاً: